الفساد بالمعارضة

الديمقراطية، في تطبيقها العملي المعاصر، تمارس كحزب أو تجمع أحزاب في الحكومة، وحزب أو تجمع أحزاب في المعارضة؛ "حكومة الظل" وكلاهما -أحزاب الحكومة وأحزاب حكومة الظل- جاهزان لتبادل الأدوار إن تغير مزاج الناخبين، لأن كلا منهما يمتلك برنامجاً شاملاً واضحاً جاهزاً للتطبيق إن استلم الحكومة، وهو جاهز بالضرورة للمعارضة إن خسرها.اضافة اعلان
والبرنامج الوطني للأحزاب الفاعلة، هو ما يميز المعارضة عن "المناكفة السياسية"، فالأخيرة تستغل المعارضة لمطالب شخصية أو لتصفية حسابات شخصية، وهي بهذا الفهم تمثل أهم الوسائل لممارسة الفساد السياسي، فالمناكفُ السياسي جاهز لتلقي الأعطيات والتنفيعات ومستعد للتنازل عن "مطالبه الوطنية" أمام أول مغلف مغلق أو اشتراك في صحيفته الصفراء أو مقابل وظيفة لقريب، وبعضهم يتحول لمعارض "ناعم" مقابل دعوة "منسف" يقوم بها وجيه متبرع لإصلاح ذات البين.
لنأخذ أهم قضيتين أثارتا لغطاً في الشارع السياسي الأردني مؤخراً: قضية أموال الضمان وقضية الاستحواذ على شركة المطار. الراصد لمناقشات السادة النواب ولأغلب رموز "القصف على الحكومة"، يقف على حقيقة مذهلة؛ وهي غياب فهم الوقائع المجردة المتعلقة بالقضيتين؛ حيث تشير المعلومات المؤكدة إلى أن موجودات محفظة الضمان تجاوزت 9.27 مليار دينار مع نهاية 2017 بزيادة 948 مليون دينار على 2016؛ حيث حققت صافي دخل استثماريا تجاوز 343 مليونا وصافي وفر تأمينيا (الاشتراكات المقبوضة ناقص التقاعدات المدفوعة) تجاوز -تقريباً- 600 مليون دينار في 2017. أما موضوع شركة المطار، فهو موضوع منتهٍ منذ سبع سنين، فقد أحيل عطاء تطوير المطار على شركة من القطاع الخاص، تدفع تكاليف تطوير المطار، مقابل استثماره وتقسيم عوائد الاستثمار بحصة للحكومة قدرها 45 % من أرباح الاستثمار، ثم يحول كامل المشروع للحكومة بعد 25 عاما.
الراصد للجلسة الرقابية البرلمانية وللمعارضين على وسائل التواصل الاجتماعي، يجد أن بعض النوّاب قدم الموضوعين أعلاه وكأن الحكومة سرقت أموال الضمان وتنازلت عن المطار، أو أنها أهدرت المال العام باستثمارها أربعة مليارات دينار في شراء سندات حكومية، علماً أن الاستثمار في السندات الحكومية هو ممارسة فضلى لصناديق التقاعد عالمياً، كما يقول أصحاب الاختصاص.
الشاهد هنا أن معظم المعارضة في الأردن هي من قبيل المناكفة السياسية، فهي غير مؤسسية وتفتقد في أغلبها للمعلومات الدقيقة أو لدراسة جدية للموضوع الذي تتصدى له، وقد أخفق الصوت المعارض عن تحقيق أي تصحيح للمسار أو تكريس خط مختلف لأداء وعمل الحكومات. والمناكفة السياسية بهذا المعنى أرهقت الرأي العام بقضايا صوتية غير ذات موضوع أو جدوى، وهذا فساد وإفساد وتشويش على ما تبقى من سمعة الأردن الاستثمارية، وهو قطعاً إهدار للمال العام؛ فالمواطن هو من يدفع كلفة كل جلسة نيابية ضرائبيا من جيبه أو ديوناً خارجية تضاف على ذمته، أو يدفعها فرصاً مهدرة لتدوير عجلة الاقتصاد المتباطئة أصلا.! وهذا لا ينفي وجود أصوات معارضة جادة، ولكن أعلى أصوات المعارضة سقفاً وجرأة ظلت فردية، وابتعدت عن الحزبية، وهي بهذه الفردية انتهت معزولة أو غير ذات تأثير فعلي على الأرض.
والشاهد هنا أيضاً، أنه في ظل غياب كتل برلمانية فاعلة، فإن العمل الرقابي للبرلمان لن يكون بالفاعلية المطلوبة، وفي ظل عدم شفافية الحكومات وتكتمها على المعلومة وتصعيب وصول تلك المعلومات للرأي العام والصحافة، فإن على الحكومات أن تتوقع القصف العشوائي وليس التوجيه الإيجابي، وفي ظل ضعف الأداء الحزبي وغياب الحزبية البرامجية الفاعلة عن البرلمان، فإن المعارضة في الأردن ستظل تدور في فلك المناكفة السياسية، بما يمثل إعلاناً عن إفلاس وطني للصوت المراقب أو المعارض، وعن غياب المؤسسية عن المعارضة التي تمثل ركناً أساسياً للحكم الرشيد المعاصر. ولحين تبدل أحوال الحكومات والوصول لحكومات برلمانية، ولحين وقف الهدر و"الفساد الأكبر" المتمثل بعدم فاعلية الحكومات والقطاع العام في إدارة موارد الدولة واقتصادها، ولحين وجود معارضة برامجية علمية مؤسسية تضبط الأداء الحكومي وتراقبه، نردد: لا تنهَ عن "فساد" وتَأتي مِثلَهُ - عارٌ عَليكَ إذا فَعَلتَ عَظيمُ.