الفضائل في المجتمع؛ الفكرية والسلوكية

موفق ملكاوي في العالم الثالث، خصوصا في العالم العربي، يوجد لكل حادثة تعريف خاص بها، وتفسير تستقيه مما يمكن تسميته “نظرية المؤامرة”. هذا النوع من التفكير يضع حدودا فاصلة بين العقل العلمي والعقل الساذج. وبصورة أكثر وضوحا هو يفرق بين العقل الذي يستند إلى الأدلة في الوصول إلى الحقائق، وبين آخر يعلقها على ظواهر أو سياقات مقطوعة عن الواقع، ولا تمت للمنطق بصلة. مثل هذه الظاهرة يفهرسها العلماء تحت اسم “الرذائل الفكرية”، وهي بنية فكرية تمتلك خصائص معينة، لا تستطيع أن تستدل على الحقائق بالسياق، بل تقفز إلى سياقات “غريبة”. ما يمثل خللا في التفكير عند الشخص، يجعله غير قادر على اعتماد المنطق في الوصول إلى الحقيقة أو القناعات. “الرذائل الفكرية”، سمات شخصية تشمل كذلك؛ الإهمال والكسل والاستعلاء والانسداد الفكري والتعصب وعدم الدقة وعدم مراعاة التفاصيل، وهي “ناجمة عن عيوب في قدراتنا على معالجة المعلومات واستخلاص النتائج”. بينما تشمل الفضائل الفكرية؛ الإدراك والحدس والحذر والانتباه والذاكرة، كـ”فضائل قدرات”، والضمير والتواضع والانفتاح، كـ”فضائل سمات”. مشكلة هذا النوع من الشخصية يكمن في أن أصحابها لا يدركون أنهم يتصفون بهذه السمات، فـ”الساذج لا يدرك أنه ساذج”، و”صاحب العقلية المنغلقة لا يدرك أنه منغلق”، كما يقول قاسم قسام، أستاذ الفلسفة في جامعة وارويك في كوفنتري. ويعتبر قسام أن “الشخصية الفكرية هي مزيج من الفضائل والرذائل الفكرية”، وأن الرذائل الفكرية “مجرد نزعات للتفكير بطرق معينة، والنزعات يمكن مواجهتها”، داعيا إلى أن تشمل “أهداف التعليم زراعة الفضائل الفكرية والحد من الرذائل الفكرية”، ومتبنيا رأي الفيلسوف جيسون بير عن “التعليم من أجل الفضائل الفكرية”. الجدل القائم لدينا اليوم في الأردن حول التعليم، يظل مركزا حول تقنيات ثبتها التعليم الحديث وتعداها منذ عقود، فالتفكير بشكل نقدي يعد أساسا لعملية التعليم، ولكنه لن يكون كافيا في زمن تتصارع فيه الأفكار، لذلك لا بد من “تطوير التدريب الأكاديمي للطلاب لتشجيعهم، وتزويدهم بالأدوات اللازمة لتحدي وجهات النظر غير المقبولة”. هل سعينا في الأردن إلى دراسة الفضائل الفكرية، أو السلوكية حتى؟ من أسوأ السمات التي تصف بها مجتمعاتنا هي تزوير الاتصاف بالفضيلة من خلال العودة إلى التراث، وكأنما مجرد انتمائنا إلى هذا التراث يتيح لنا السمة المطلوب تحققها للفضيلة؛ فكرية أو سلوكية، من دون الانتباه إلى معضلة “قطع سياق الوجوب”، من خلال مغادرة اشتراطات معينة لإحقاق المعادلة. ربما يمكن لنا التأشير بشكل غير علمي إلى العديد من التحديات المنتشرة داخل المجتمع، والتي يمكن توجيه الدراسات الإنسانية نحوها، لكي يتسنى لنا التعرف إلى الفضائل في المجتمع، ويمكن للمؤسسات البحثية تمويل مثل هذه الدراسات المهمة والقيمة. دراسة عن مساحة الصدق بين الأردنيين يمكن لها أن نكشف عن الشفافية الفردية، وبالتالي عن مدى التسامح والتفهم والحرية في أن يكون الإنسان حقيقيا تجاه الآخرين، بلا أي حاجة لممارسة التجمل الكاذب أو المواربة والتزييف لنيل القبول لدى فرد أو جماعة. هذا الأمر لا يمكن التساهل بأهميته التي يتأسس عليها كثير من مفاهيم العيش الجماعي أو المشترك، كالتفهم والتسامح والتعاطف، وبالتالي فهي تحكم آليات العيش داخل أي جماعة لا يشترط أن تكون متماهية في جميع الصفات. يمكن لدراسة أخرى أن تستقصي مفهوم سيادة القانون، ومدى التزام الأردني بالقانون، ومعنى أن يكون الفرد خاصعا لقانون ما، حتى لو لم يكن مطمئنا إلى عدالته، ودراسة مفهومه عن آليات العمل المشروعة من أجل الضغط للتغيير التشريعي. هذه دراسة اجتماعية مهمة هي الأخرى، فمن خلالها يمكن إلقاء الضوء على مدى التقدم المجتمعي نحو المدنية، وكيفية انتهاج المجتمع آليات التغيير المطلوب. وأيضا من الممكن أن تكشف مدى انسجام المجتمعات المتحولة حديثا نحو المدنية مع “منظومات الإخضاع التنظيمية” التي تهدف لإيجاد سلوكيات جمعية تجاه قضايا محددة. مفهوم التعليم وهدفه عند الأردني، النظرة الطبقية، العنصرية، التحيز، الكرم، الملكية الجماعية للفضاءات العامة، الديمقراطية داخل البيت، الحزبية، المشاركة السياسية، النظافة الشخصية، جميعها قضايا لم تعرف الدراسات الإنسانية طريقها إليها حتى اليوم. إذا أردنا أن نؤسس أرضية للتقدم المجتمعي، فمن الضروري أن نتعرف ابتداء على المجتمع محل الدراسة، ومعرفة فضائله ورذائله؛ فكرية وسلوكية. من الممكن أن تمنحنا مثل هذه الدراسات فهما عميقا للتحديات الفردية والجماعية التي تعيق التقدم الحقيقي، واتخاذها طريقا لإخفات جوانب الضعف وتعظيم جوانب القوة. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان