الفلسطينيون.. مفترق حرج!

في الحياة الواقعية، يواصل المرء المسير في درب ينبغي أن يوصله إلى مقصد واضح، لكنه يفضي به حتماً إلى مفترقات يتوقف لديها –مؤقتاً- ليقرّر الوجهة. هكذا أيضاً كان حال شوط من الرحلة الفلسطينية الصعبة بعد نكبة 1948. لكنّ جملة من الشروط الموضوعية والذاتية انتهت بالفلسطينيين فيما يبدو إلى تقاطع حرج، علقوا فيه فضيّعوا الطريق والمقصد معاً. ومع كلّ يوم تطول فيه الإقامة، يجتهد أحد فيفتح مسرباً جديداً، فيزيد التشّوش ويُصعِّب اختيار الطريق. هكذا أنتجت زحمة الاقتراحات موقفاً يشلّ الفكر والحركة، طباقاً لقولنا: "إذا أردتَ أنْ تحيره.. خيِّرْه"!اضافة اعلان
أول أسباب ضياع الاسم والنكهة في الحالة الفلسطينية، الكثرة المدهشة للطبّاخين؛ من أهل البيت والخارجيين. حتى إنّ مفهوم الداخليين والخارجيين نفسه يُربك. فأهل البيت الفلسطيني "الداخليون" افتراضاً، منقسمون بين "داخل" -يعني الموجودين على الأرض الفلسطينية، و"خارج" -يعني فلسطينيي الشتات. وهذا "الداخل" بدوره مقسوم بين "خارج الداخل" -فلسطينيي 67، و"داخل الداخل" –الفلسطينيين ضمن الخط الأخضر في فلسطين 48. وفي دولتَي الداخل، أو "خارج الداخل" في غزة
ورام الله، ينظر هؤلاء وهؤلاء إلى "الآخرين" على أنهم "خارجيون". ومع كل هذه التقسيمات، هناك عدد لا يحصى من أفخاذ العائلة الفلسطينية في شكل فصائل كثيرة الحرَد ناشفة الرأس، تتخذ كلّ منها طريقاً وحدها وتصرّ على أنها ستقودها إلى الوطن قبل الآخرين. وهناك "الخارجيون، الداخليّون، الخارجيون" الأوصياء من شيوخ القبيلة العربية الممتدة، الذين يُداخِلون بكثافة في تقرير سلوك أبناء العمّ. وهناك "الخارجيون الخارجيون الخارجيون" -الغربيون والأميركيون والآخرون الذين يضيفون ذوقهم الرديء إلى الوصفة.
آسف! ضيعتكم وضعت. ولكن، أليس هكذا هو المأزق؟ والآن، يضرب الربيع العربي الفلسطينيين على الجبهة، فيرون أنفسهم قاعدين مع ورطتهم والكلّ يمشي. وفوق ذلك، يضربهم العدوّ وهم في موقف "المربّط" الذي يحاول درأ الضرب عن رأسه بيدين عاريتين مُثخَنتين. ولعلّ الأوجب في هكذا موقف أن يفعل الفلسطينيون ما يفعله كلّ من يفلق رأسه ضجيجُ الناصحين، فيصرخ: أرجوكم، اذهبوا عني واتركوني وحدي، لعلّ رأسي تروق فأفهم أين أنا!". وفي الحقيقة، يفكّر الفلسطينيون الآن بطريقة المأزوم الذي يُكثر من استشارة الناصحين، فيتورط. لكنّ الخروج من المفترق الحرج يقتضي استعمال قانون الاستبعاد –شطب الاحتمالات غير المنطقية بالتتابع، حتى تبقى طريقان للاختيار بينهما.
من دون المراوغة المعتادة، ينبغي على الفلسطينيين أن يواجهوا -بإخلاص ركاب السفينة الواحدة المهددين جميعاً بالغرق- السؤالين الأساسيين في أيّ مشروع. أولاً، الغاية: هل نريد فلسطين 67، أم تحرير فلسطين التاريخية 48؟ ثانياً، الوسيلة: ما الأنجع والأسلم في طريق الذهاب إلى الغاية التي تحرسها بنادق العدو؛ اصطحاب بندقية مذخّرة، أم التلويح بلافتة احتجاج بيضاء -سلميّة؟ وقد قرأت هذا الأسبوع اجتهادَين في الإجابة عن أحد السؤالين.
في تشييع أهل "الرام" المحتلة شهيد الأقصى يوم السبت، هتف المصابون مباشرة بوجيعة الموت وانتهاك الأقصى: "فليسقط غُصن الزيتون، ولتحيا البُندقية". وأطلق الشباب الغاضبون زخّات رصاص ذهبت –كما يحدثُ كثيراً- إلى حيث لا معنى، إلى الهواء. وقبل ذلك بأيام، في 21 شباط، كتب السياسي البارز
د. مصطفى البرغوثي رؤية جزء من النخب الفلسطينية في صحيفة "نيويورك تايمز،" بعنوان: "الاحتجاج السلمي يمكن أن يحرّر فلسطين". ومباشرة، اعتقل عنوانه انتباهي لأنّني كنت كتبت في هذه الزاوية اقتراحاً مُغايراً لتحرير فلسطين. وقد اخترت مقالته للترجمة والنشر، وأمِلت أن أجد فيها شيئاً يحاور انطباعاتي. وكانت القراءة مخيّبة -آمل مناقشتها في مقال قادم.
في الإجابة عن السؤالين المذكورين، عَنى اختزال الغاية في فلسطين 67، إقصاء فلسطينيي الشّتات من أهل 48 وإعدام فلسطينيتهم، وكذلك فلسطينيي "داخل الداخل" المتشبثين بالجذور أمام التمييز وبشاعة الاحتلال في وطنهم التاريخي. وفي الحقيقة، كانت هذه إجابة "القيادة" طوال عقدين، والتي أبدعت فقط هذا المفترق الحرج. وفي سؤال الوسائل، قصفت "القيادة" يد عرفات صاحبة البندقية، واستبقت غصن زيتونه. والحصيلة: إجلاس الفلسطينيين العالقين مكشوفي الظّهر تحت الضرب الكثيف، وتصدير الأزمة بالتشاغل بالجانبيات عن حل سؤال الوجهة والخروج من التقاطع. الآن، وقد يبّس طول المكوث الأطراف، ماذا عن مفاوضة الإجابات البديلة، علّها تنفتح الدّروب؟!

[email protected]