الفلسطينيون: نهاية "الربيع" وأزمة الرواتب

بغض النظر عمّن يرى أنّ الثورات ما تزال موجودة، ومن يرى أن الرئيس المصري الجديد عبدالفتاح السيسي، هو رئيس ثوري أو على الأقل إصلاحي، فإنّ المؤكد أن كل أعداء "الربيع العربي"، أو المشككين فيه أو الخائفين منه، يتنفسون الصعداء بارتياح الآن، إلا من يعتقد أنّ ما يجري هو جزء من المؤامرة ذاتها.  اضافة اعلان
لقد انتهى "الربيع العربي". فمن صنعوا ثورة "25 يناير" في مصر، أصبحوا خارج المشهد؛ ثوار يناير العلمانيون فريقٌ منهم في السجن، وتحديداً من رفض أو عارض النظام الجديد، وفريقٌ آخر خسر رصيده الجماهيري، وأبرزهم حمدين صبّاحي الذي كان "حصانا أسود" في الانتخابات الرئاسية السابقة، العام 2012. ولكن الأهم بالتأكيد، أنّ الإخوان المسلمين الآن في المعتقلات أو ملاحقون، وبلا مؤسسات تنظيمية علنية أو فاعلة؛ وهم بالتأكيد خارج السلطة. ووضع "الإخوان" هو سبب الارتياح الأول لدى الأنظمة التي لم تطلها الثورات والانتفاضات.
فلسطينيّا، فإنّ مشهد الموظفين الذين عينتهم حكومة حركة "حماس" السابقة، مدعومين بالشرطة التي تأسست زمن الحكومة نفسها، وإقفالهم البنوك في قطاع غزة لأيام منعاً للموظفين الآخرين، وغيرهم من المراجعين والمودعين، من الحصول على رواتبهم وأموالهم من البنوك، هو مشهد محزن إنسانيّا ووطنيا، يكشف طبيعة المعاناة البشرية في قطاع غزة، كما يكشف "تقزّم" وتقهقر الأجندات الوطنية، والانشغال برغيف الخبز اليومي. لكن هذه التحركات تكشف وتبرهن سياسيّاً، طبيعة الأجندة والمبررات التي قادت بشكل مباشر إلى المصالحة. فبقدر ما تكشف هذه الأزمة عن مشهد محزن وطنيا وإنسانيا، فإنها تُظهر أنّ مشكلات سياسية وأمنية كبيرة باتت تُختَصَر بأزمة الراتب.
ويكشف هذا، من وجهة نظر أمنية وسياسية قصيرة المدى، أنّ الأزمة "سهلة"، وأنّ مفتاح السيطرة على كثير من عوامل الاستقرار هو الراتب. لكن على المدى الاستراتيجي، فإن هذه كارثة وطنية.
لم يعد مطلوبا من السياسيين تقديم برامج مقاومة ونضال وحل سياسي، لكي يضمنوا التأييد الشعبي، ويقوموا بتهدئة الرأي العام؛ بل عليهم تقديم الرواتب، وهذا بحد ذاته يجعل المهمة للسياسي، أو بكلمات أدق لمسؤولي الأمن وكبار المسؤولين، سهلة، مفتاحها منحة تأتي من هنا أو هناك لسداد الرواتب. لكن وطنيا هذه كارثة، تعكس ما الذي بات يشغل الرأي العام ويرسم أجندته. وهذا الأمر ليس حكراً على قطاع غزة، أو على حركة "حماس". ففي غزة من ضمن المحتجين موظفون وعناصر داخل حركة "فتح"، قُطعت رواتبهم منذ سنوات. وفي الضفة الغربية، شهدت الأشهر الأخيرة لحكومة رئيس الوزراء السابق سلام فياض احتجاجات كان سببها ارتفاع الأسعار وأزمات مالية، ترافقت مع وقف المنح والمساعدات حينها، وهدأت مع عودة المساعدات.
على صعد سياسية عدة، يبدو الوضع مُريحاً. فقد استعيدت الوحدة المؤسسية السياسية بين الضفة والقطاع (عدا الأجهزة الأمنية). وقد كان تنصيب الرئيس المصري الجديد عبدالفتاح السيسي، مناسبة مهمة لفهم وضع التمثيل الفلسطيني، فلم يعد مطروحاً أبدا منافسة أي طرف فلسطيني للرئاسة على موضوع التمثيل، كما كان يجري في مناسبات عربية وإسلامية سابقة، قد تجرى في قطر أو إيران أو مصر زمن حكم الإخوان المسلمين. وأزمة الرواتب في غزة تكشف أنّ الأجهزة المعنية تحولت، في جزء منها، إلى أجهزة نظامية، ينظر لها منتسبوها، جزئيا على الأقل، بأنّها فرصة للعمل وللعيش. وهذا لا يقلل أبدا من وطنية وانتماء هؤلاء، أو يعني أنّهم في لحظة المواجهة مع الاحتلال لن يتحولوا إلى مناضلين، ولكنه يكشف، في الوقت نفسه، الأزمة الراهنة، وطبيعة الأمور ومساراتها، عندما تتأسس سلطة ودولة في ظل الاحتلال والحصار والمقاومة.
كان موقف كل من "فتح" و"حماس" في سياق "الربيع العربي" انتظار كل منهما لما سيجري، وكيف سيُحسم الصراع الداخلي في الدول العربية، وانعكاس ذلك عليهما. والآن، انتهى الانتظار، وحلت محله مرحلة عنوانها انشغال بالقضايا الحياتية والمعيشية من دون استراتيجية وطنية عليا.
لا يعني ذلك أنّ هذه الوضعية ستستمر بالضرورة، ولن تبرز قوى ترفض ذلك وتعيد توجيه البوصلة.