الفلسطينيون والأسر: خبرة وجودية..!

سمع الفلسطينيون من الآباء عن اشتباكهم المتواصل بخبرة الأسر، سواء بالعيش تحت الاحتلال البريطاني، أو بالسجن المباشر في المعتقلات، بل ومواجهة حكم بالإعدام لأقل الأسباب. وسمعنا منهم قصص الفقر والمجاعات تحت الحكم العثماني الذي فرض الضرائب الباهظة وتحكّم في الأرزاق، وجند الأبناء جبراً وأخذهم في جيشه. وبعد ذلك، تسليم البريطانيين الوحشيين الشعب الفلسطيني كله لاختبار الأسر المتواصل منذ 67 عاماً، ومع كل لحظة وجودية.اضافة اعلان
حسب الإحصائيات التي استعيدت في يوم الأسير أول من أمس، تعرض 800.000 فلسطيني للأسر منذ العام 1967 فقط. ولحوالي 70 في المائة من العائلات الفلسطينية قريب أسره العدو على الأقل. وحسب أرقام مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، يصل عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون ومعتقلات الاحتلال في شباط (فبراير) 2015 إلى 6000 أسير، منهم 454 معتقلاً إدارياً، و22 أسيرة، و163 طفلاً، بالإضافة إلى 20 من أعضاء البرلمان الفلسطيني.
بطبيعة الحال، لا تذكر هذه الأرقام أسرى في ما قبل 1967، ولا الفلسطينيين الذين سُجنوا في سجون غير سجون الاحتلال بسبب اشتغالهم بقضيتهم الوطنية في المنفى، أو بسبب تواجدهم غير الاختياري في أماكن القمع السياسي المختلفة ومشاركتهم في القضايا الإنسانية. وهناك أيضاً أسرى سجون السلطات الفلسطينية في الضفة وغزة. كل ذلك بالإضافة إلى اعتقال الحرية الجماعي في السجن الكبير الذي يصنعه الاحتلال لكل الفلسطينيين في وطنهم التاريخي، والسجن المؤبد مع النفي والغربة والمعاناة المتكررة لكل الأجيال الفلسطينية خارج الوطن.
ما يزال السجن واحداً من متعلقات الوجود الفلسطيني على مدى قرن كامل على الأقل. وفي معظم الأحيان، أضيف إلى فقدان الفلسطينيين الحرية التي يعنيها العيش في الوطن، تعرضهم لكل أشكال مصادرة الحرية التي تعيشها الشعوب العربية، والاشتباك القهري مع كافة السلطات الاستبدادية بتجلياتها المعادية لحقوق الإنسان وكرامته. وترافق ذلك مع عقاب مخصوص، هو حرمان الفلسطيني من اعتناق فكرة المقاومة والمطالبة بالوطن، وإطلاق شتى التسميات السلبية على تعبيراته عن هذه الفكرة، باعتبارها "تخريباً" أو "إرهاباً" أو "تحريضاً على الثورة" أو حتى اتهمامه بتهمة غير موجودة بمعنى تجريمي إلا في قاموس السلطات العربية: "الوطنية". بل إن آلافاً لا تحصى من الأشقاء العرب كانوا أسرى فلسطينيين حين سجنوا، إما في سجون العدو، أو في سجون أنظمتهم بسبب تقاسمهم الهم الفلسطيني القومي والإنساني الذي تؤثر تداعياته على كل عربي.
ليست خبرة العيش مع هذا الواقع المحاط تماماً بفكرة السجن بهذه الكثافة والمدى الزمني موجودة إلا في الحالة الفلسطينية. وقد تكرس هذا الواقع غير الإنساني رسمياً –في مفارقة قدَرية- بقرار لشخص واحد بلا ضمير، آرثر جيمس بلفور، الذي ربط مصير الفلسطينيين بالتشرد والسجن والموت، من دون تخويل بسلطة أو حق. وبعد ذلك، اشترى العالَم، ممثلاً بهيئاته الدولية، هذا القرار واعتبره مبرراً مقبولاً لتجريد الفلسطينيين من وطنهم بالتدريج، والاعتراف بالكيان الذي احتلهم كموجود طبيعي يمارس "حق الدفاع عن النفس" بكل الوسائل التي يريد ضد الفلسطينيين، ومنها أسرهم جميعاً وتحديد أقدارهم بالكيفيات القائمة.
كان الاحتلال والتهجير من الوطن هو الحكم على الشعب الفلسطيني كله بالسجن لمدة مفتوحة النهاية. ولن يتسنى الإفراج المستحق عن الفلسطينيين إلا بإنهاء الاحتلال وعودتهم إلى الوطن. لكن الأسرى في سجون الاحتلال هم الذين يدفعون أفدح الأثمان لقاء غرم لم يرتكبوه: الاحتلال. وهم يُعاقَبون على فعل يُعتبر في القانون الدولي والأعراف الإنسانية والأخلاقية حقاً للشعوب الواقعة تحت الاحتلال، الحق في المقاومة. ومعهم، يعاقب أهلهم المحرومون منهم، وشعبهم الذي يفقد بأًسْرهم أغلى أبنائه وطليعته المقاوِمة.
الحالات الوحيدة التي تحرر فيها أسرى فلسطينيون –بخلاف إنهاء فترات الأحكام الظالمة- كانت مبادلتهم بسجناء للعدو. وبغير ذلك، لا تنفع مطالبات الشعب الفلسطيني والمنظمات الحقوقية المحلية والعالمية والمؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية في إطلاق سراحهم. ومع التجاهل العالمي، يبقى مصيرهم، ومصير شعبهم كله، معلقاً فقط بالمقاومة التي يمكن أن تجبر العدو على التنازل، سواء بتحرير أسرى أو بالانسحاب من الأراضي. وبذلك، تكون المقاومة هي الشيء الوحيد المنطقي الذي يفعله الفلسطينيون لأسراهم، ولمحاولة تخليص أنفسهم من كابوس الأسر المقيم.