الفلسطينيون وترامب: "ألف مبروك"


بعد أن واظب جيسون غرينبلات، مندوب الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشؤون المفاوضات، على اعتمار القبعة اليهودية التقليدية (كِببا)، حتى أثناء الحملة الانتخابية، فإنه تركها عندما جاء إلى القدس للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي وإلى رام الله للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس والفلسطينيين. هذا التغيير في الشكل لدى غرينبلات ربما يرافقه أيضاً تغيير في شكل تعاطي إدارة رئيسه مع الشأن الفلسطيني، بحيث شكل ومضمون هذه السياسة شبيه بسياسات الرؤساء الأميركيين السابقين. اضافة اعلان
بحسب الصحافة فإنّ لقاءات غرينبلات مع الفلسطينيين تضمنت سلسلة لقاءات من ضمنها زيارة مخيم الجلزون للاجئين، ولقاؤه عدداً من الطلاب الحاصلين على منح دراسية أميركية، وعقد لقاء مع قادة الأجهزة الأمنية، وتناول العشاء مع عدد من رجال الأعمال الفلسطينيين في مدينة القدس الشرقية. وإذ أخبرني أصدقاء صحافيون عاملون في الميدان بنفي أهالٍ في الجلزون عقد مثل هذا اللقاء، فإنّ من شبه المؤكد أنّ غرينبلات لا يحتاج كثيرا لعقد لقاءات مع المستوطنين في بيت إيل، مقر القيادة العسكرية للاحتلال في الضفة الغربية، والملاصقة للجلزون، والتي تقفل الطرق للمخيم عادة لأجلها. فعلى فرض أنه لم يكن في "بيت إيل" من قبل ولا يعرف أحدا، فإنّ شريكه في إدارة الملف الإسرائيلي، السفير الأميركي ديفيد فريدمان سبق له وساعد في جمع تبرعات للمستوطنة، بما في ذلك من ترامب نفسه.
بعد زيارة غرينبلات وقبلها مكالمة ترامب مع الرئيس محمود عباس، باتت إلى حد كبير معالم سياسة إدارة دونالد ترامب في الشأن الفلسطيني، واضحة، ويمكن تلخيصها بالعودة للنقطة التي كان يجدر أن تنتهي عندها العملية السياسية قبل نحو سبعة عشر عاما، أو التي توقفت عندها المفاوضات، قبل ثلاثة أعوام، أو المشتملة في خريطة الطريق 2003، أو نوقشت في مؤتمر أنابوليس 2007. أي التفاوض للتوصل لحل الدولتين، ولكن مع رفض أي حل وأي خطوة وأي جهود للتوصل لهذا الحل دون مفاوضات ثنائية إسرائيلية – فلسطينية، بلا أي تدخل خارجي، حتى لو كان أميركيا، مع أنّ هذا التفاوض قد يستمر للأبد، ويصاحبه فرض الإسرائيليين لأمر واقع جديد، وتستمر معاناة الفلسطينيين. أي أن إدارة ترامب عادت لسياسات الرؤساء السابقين، الذين يعطون أولوية لعملية مفاوضات بغض النظر إن كانت ستصل لنتيجة.
لقد بينت السياسة الفلسطينية، منذ أعوام، أنّ الاستمرار بالتفاوض، بدون وقف الاستيطان، وإطلاق أسرى، هو أمر عبثي، يؤدي لاستمرار الإسرائيليين بفرض الأمر الواقع الذي يؤدي بالنهاية لإنهاء فرص إقامة الدولة الفلسطينية، ومن هنا ذهب الفلسطينيون للأمم المتحدة، وطلبوا الاعتراف بهم، ومنحهم عضوية باعتبارهم دولة، ثم قلصوا من نشاطهم في الأمم المتحدة لصالح المبادرة الفرنسية.
بحسب مصادر غرينبلات، فإنه بحث مع نتينياهو، وضع دليل عمل، لمسألة الاستمرار في البناء بالمستوطنات، على أساس أن البناء لن يتوقف، ولكن سيكون ضمن محددات، وبحث معه تطوير الوضع الاقتصادي للفلسطينيين، وبحث مع الفلسطينيين تعزيز الاقتصاد الفلسطيني والأمن ومنع التحريض ضد الإسرائيليين.
بتحليل التصريحات الأميركية، فيمكن تلخيص المشهد بالنقاط التالية، أولا، على الفلسطينيين التوقف عن التحرك دوليا في الأمم المتحدة وغيرها. ثانيا، العمل لحل وسط مع الإسرائيليين بشأن الاستيطان. ثالثا، السعي للوصول إلى ترتيبات لإعادة إطلاق مفاوضات بالشروط القديمة ذاتها، حيث لا مرجعية دولية أو أي ضمان لتحديد موعد ملزم لانتهاء المفاوضات. رابعاً، بجانب الحديث عن المفاوضات سيجري الحديث عن تحسين وضع الاقتصاد للفلسطينيين (مع أن فرص تطوير حقيقية لا تبدو موجودة حقا)، بالتوازي مع الالتزام بالتنسيق الأمني الفلسطيني مع الإسرائيليين. والاهتمام بالاقتصاد والأمن لهذه الدرجة مؤشر على احتمال أن تستمر المفاوضات طويلا جدا.
إذا استطاعت الإدارة الأميركية تسويق العودة للتفاوض ضمن هذه الشروط سيبدو المشهد شبيها بالفيلم المصري "ألف مبروك"، من بطولة أحمد حلمي (الذي كتبتُ عنه عدة مرات كلما أطلقت مفاوضات فلسطينية جديدة، على الأقل كتبت عنه في 2012 و2015)، إذ كتبت أنه في الفيلم يحلم البطل كل يوم بكابوس، ويستيقظ كل يوم ليعيش ما شاهده (وتوقعه). ويحاول البطل في كل يوم تغيير شيء من مسار اليوم الماضي، فينجح قليلا في التفاصيل، ولكن النهاية واحدة ومتكررة ومأساوية.