الفلسطيني والأرض..!

الأرض هي البدء والمنتهى في صراع الفلسطينيين مع الاحتلال ومن أجل استعادَة الوجود الطبيعي. وقد حدَّد زعماء الحركة الصهيونية، من أمثال إسرائيل زانجويل وثيودور هيرتزل، هذا الجوهر حين روجوا أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وكان هذا هو المبدأ الذي تذرع به بلفور لمنحِ فلسطين للصهاينة.اضافة اعلان
كان قيام كيان الاحتلال على أساس هذه المغالطة الواضحة دائماً مصدَر قهر لا يُحتمل لأجيال الفلسطينيين منذ النكبة. فوفق أي مفهوم للـ"شعب"، ليس اليهود شعباً. إنهم أفراد من شعوب مختلفة، لا يجمعهم سوى الانتماء الديني بالتعريف، كما تشير نسبة الشعب إلى المعتقد في عبارة "الشعب اليهودي". وإذا كان الدين يصنع شعباً، فإن العرب والباكستان والكازاخ والإيفواريين المسلمين هم شعب؛ أو أن الأميركيين والفلبينيين والكونغوليين المسيحيين شعب، وهكذا.
كما أن من منتهى الاستخفاف بوجود الفلسطيني وإنكاره أن يجري الحديث عن "أرض بلا شعب"، وكأن الفلسطينيين زرع شيطاني جاء من العدم. ومن المغالطة الواضحة أن يزعم منظرو الصهيونية بأن "الفلسطينيين شعب مختلق" على أساس أنه لم يكن هناك كيان سياسي يُدعى فلسطين لأن سكانها كانوا رعايا للدولة العثمانية! ومع أن هذه الحجة تتعارض مع كل الوثائق التي تسمِّي هذه المنطقة باسمها، "فلسطين"، من طوابع البريد إلى العملة إلى مختلف مناحي الحياة النابضة، فإن سكانها أحرار في أن يسموا نفسهم ما يشاؤون، ولن تتعارض التوصيفات مع حقيقة وجودهم وامتلاكهم الأرض تاريخياً.
كان الفلسطينيون تحت الحكم العثماني أو الانتداب البريطاني ضحايا للصراع على الأرض. لكنّ خضوعهم لتلك الأنظمة الاحتلالية لم يجرّدهم من صلتهم بالأرض الحِسّية –من التراب الذي يقفون عليه ويمتلكونه، حتى لو كان مهدداً بالمصادرة. ومع أن أي احتلال هو نكبة في الأساس، فإن النكبة بمطلق معناها هي التي تحققت في خبرة الفلسطيني، حين ترافق احتلال وطنه مع اقتلاعه من جذوره وخلعه من أرضِهِ الحسيَّة في 1948، ثم 1967.
مع أن عبارة "الاقتلاع من الجذور" قد تبدو مجازاً وتجريداً للآخرين، فإن الفلسطيني يَعرِفُ بالضبط كم هي حقيقية. وقد امتلك الفلسطينيون المهجّرون قطعاً من الأرض الحسّية التي دفعوا أثمانها وسجلوها بأسمائهم خارج فلسطين، لكنّها لم تعوِّضهم عما تقدمه الأرض التي فيها جذورُهم التاريخية. وسوف يقول لك الفلسطيني، مهما امتلَك في المنفى، بأنه لاجئ، وغريب، وأنه مِن هُناك.
لذلك، لا فُرصةَ لتحقق العدالة وإعادة الإنسانيّة للفلسطينيّ من دون إتاحة حق العودة. ولن تكون أي حلول من نوع توطينه في الخارج –أو حتى إقامة كيان فلسطيني على بقعة صغيرة من فلسطين- شافيةً لأعراضِ تمزُّق الصلة بين الفلسطيني وأرضِه الأصلية. وسوف يعني أيٌّ خيار غير ذلك تأبيد حالةِ فقدان التوازن التي لخصها ببراعة محمود درويش: "لا أرضَ تحتي كي أموتَ كما أشاءْ، ولا سماءْ، حولي لأثقبَها وأدخلَ في خيام الأنبياءْ. ظهري إلى الحائطْ/ الحائط الساقِط"!
أينَما كان الفلسطيني المهجَّر، سواء من الجيل الذي أُخرِجَ من الوطن أو من الأجيال اللاحقة، ومهما توفرت له من إمكانيات للتماهي مع المكان والمنظومات، فإنَّه لا يتخلص من الشعور باللاطبيعية، وبالعيش في حيِّز ثالث مختلق ومشوّه، حيث يوجد مقطوعاً قَسراً عن مكانه الطبيعي، وحيثُ يظل مغترباً في المكان الجديد لأنَّهُ مُقحمٌ فيه قَسراً. ولَو أُتيحَ للفلسطيني المنفي خيارُ العودَةِ، فإنَّ شيئاً جوهريّاً فيه سيتغيَّر حتى لو اختار البقاء في الخارج، لأنَّ ظهرَه لن يكون إلى الحائط، وإنما لديه بديلٌ مرحِّبٌ وحميم يمكن أن يعود إليهِ في نهاية المطاف.
مِنَ المؤلم أنْ يَعيش الفلسطينيّ عُمره وهو يحاول إثبات أنَّه موجود، وأَنْ يعامَل صوتُه بازدراء برغم كلِّ الصخبِ الذي يصنعه. ثم، بعد عقودٍ من الصراع العنيدِ ضدَّ إنكار وجوده، يتشكل إجماعٌ مطّرد حول الكتم النهائي والأبدي لصوت ملايين الفلسطينيين المنفيين الذين أصبحوا مثل الذي يصرخ خلفَ لوحٍ زجاجي عازل للصوت. والأشد مضاضةً أن يكونَ الذين يغلقون آذانهم ويديرون وجوههم أقارب وأشقاء وجيرانا، أصبحوا يشارِكون في قَطعِ الشرايين الأخيرة بين الفلسطيني وأرضِه!
هكذا يعذِّبون الفلسطينيّ مرّات؛ بنكبة التهجير، ثمَّ بالإنكارِ المُطلَق لأشواقِه وتعريفه لوجودِه الشخصيِّ. وهكذا يشارِك في الجريمةِ عددٌ متزايدٌ من المستهينين بفكرة حق العودة.