الفن لنشر الفضيلة!

أعجب ما سمعتُه من تعريف لدور الفنّ أنّه لنشر الفضيلة. جاء ذلك، لا على لسان شيخ الأزهر، ولا من تصريح لمفتي المملكة، ولا من جماعة الأدب الإسلاميّ... بل من نقيب الفنانين الأردنيين السيد ساري الأسعد على قناة "العربيّة"، في استجواب تلفزيونيّ له حول قضية فصل الفنانة المسرحيّة أسماء مصطفى.اضافة اعلان
أنا لا أعرف الفنانة أسماء معرفةً شخصية، ولستُ مطلعة على ميولها السياسيّة، ولا على آرائها في الفنّ وفي الحياة. ولكني أعلم شيئاً واحداً نُشِرَ في الصحف وعلى مواقع كثيرة، وأكّده النقيب، ممهوراً بالسبب، وهو التغريدة التي نشرتها الفنانة على "تويتر". وكان من عجبٍ أن يصفَ نقدي لقراره "ممارسةً للإرهاب عليه"، وأن يطلب إليّ الاتصال بحضرته قبل أن أكتب مقالتي السابقة في الموضوع، للتحقُّقِ. وهل كان من تجنٍّ عليه وعلى مجلسه العتيد سوى أنهم فَصَلوا عُضوةً في غير وجه حق، وأنهم لبسوا أثواب الفقهاء دون عدّة الفقهاء؟! وأن يتبنى النقيب دور المفتي دون مؤهلاته في المعرفة بعلوم الدين، لهي كارثةٌ أخرى، لا تقلُّ خطورةً عن سطوة الغوغاء على المشهد الثقافي، وتحريك الشارع الافتراضيّ بتفسير الجهل، وعماء العقل والبصيرة. وهذا يُنبئ عما بلغناه من استيطاء حيط الدين، واسترخاصِ الفتكِ به تفسيراً وتأويلاً، تحت ستار الدفاع عنه. فالدينُ قويٌّ بذاته، لا يحتاج إلى أميّينَ وشُداةِ مسالخ لإعلاء شأنه، أو الدفاع عنه.
وسيكون مُضحكاً ما بعدَهُ إضحاكٌ أن يظهر نقيب الفنانين، ليصفَ "طالبي الشهرة" من "المغمورين" الذين "يتطاولون على الدين" ليشتهروا. وهو دخولٌ أرعن في الضمائر، ولكنَّه أول ما ينطبقُ على حضرته من حيثُ انصياعُه للغوغاء في دفاعٍ غير مشرّف عن دينٍ لم تمسَسْه الفنانةُ بسخريةٍ ولا إهانة.
وإذ ما يزال سماحته يرقبُ، منزعجاً، ما تكتبه الفنانة على صفحتها (وهي ليست مهمة أيّ نقيب!)، ويوصدُ أذنيه عن رأيِ أهل الاختصاص في موضوع التناصّ القرآنيّ، فإنَّ له مع ذلك أن يستمرَّ في إعلان جهلِه بالأدبِ العالمي وقيمةِ بُناتِه، فيصفُ واحداً من أرفع من كتب الرواية بالإنجليزية، وهو المغضوب عليه سلمان رشدي (ذكره على أنه سليمان تأكيداً لعلمه!) على أنه مغمورٌ وطالبُ شهرة بتعرُّضه للإسلام! بينما كانت روايته التي سبقت "آيات شيطانيّة" وهي "أطفالُ منتصف الليل" تحصد الجوائز وتُتَرجَم إلى عددٍ مهول من لغاتِ العالم، العربيّةُ واحدةٌ منها! لن يضير بطبيعةِ الحال، سلمان رشدي أن يشتمه السيد النقيب، ولكنَّه يضيرنا كشريحةٍ في مجتمع المعرفة في الأردن أن يمثّلَ فنانينا هذا القدرُ من الاستخفافِ بالمعرفةِ والدينِ وبالمرأة. فسماحتُه لم يتورَّع عن الإشارة إلى فنانةٍ زميلةٍ بـ"البنت" تُقابلُها في لغة عدمِ الاحترام "الولد" أو "الصبيّ"، وهي إشارةُ احتقارٍ لا نستطيعُ أن نغفرَها له، من بين عددٍ مهولٍ من الأخطاء الفكريّة والمعرفيّة والأخلاقيّة بمعناها الالتزاميّ الرفيع.
إذ كيفَ يُسوِّغُ لنفسِه نقيبٌ يتَّخذ ومجلسه العتيد قراراً بفصلِ فنانة، مما يعني منعها من ممارسةِ المهنة وقطع رزقها، بشبهةٍ موجودةٍ في رؤوس غوغاء "فيسبوك" والجَهَلة بالنصِّ المقدَّس؟ دون أن يستشيرَ أحداً من أهل العلم حتى! وإذا أعلن أنّه اتَّصل باثنين من دائرة الإفتاء لم يردّوا عليه، فما كان ضرَّه لو استشار ثالثاً ورابعاً وخامساً قبل أن يُنصِّبَ نفسَه فقيهاً ومُفتياً، وقبل الفتك برزق وسمعة الفنانة؟ ومن الجدير بالذكر أنّ أحداً من "المشايخ" أو "رجال الدين" في الأردن لم يشتركوا في هذه المهزلة الغوغائية، ولم يكفّروا الفنانة ولا علّقوا عليها سلباً أو إيجاباً، مما يعني لحضرة النقيب أن حتى شبهة الغلط، من وجهة الجهات المختصّة بتكفير الناس وتزكية إيمانهم، غير واردة.
وإذ آسف لهذا الحجاج البالي الذي يصبُّ في انتهاك حريّة التعبير، فإنما لأسوقَ لحضرة النقيب، وللناسِ من ثمّةَ، تفنيداً لسلوك النقابة الفاضح من داخل المعنى الترهيبيّ الذي تمارسُه ضدّ بعض أعضائها.
والسؤالُ الآن: كيف تستقيمُ الدراما في بلادنا ما دامت في نظر النقيب والنقابة لبثِّ "الفضيلة"، و"الحفاظ على الدين"؟ وهو دورٌ يتماهى مع مواعظ الأوقاف!
ومع كلِّ هذا الظلام.. فثمّةَ أملٌ بانفراجٍ.. وأملٌ بأن يظلَّ الفنّ ناشراً للسعادة والجمال والخير والأسئلة بنماذج من الفنانين نحبُّها ونجلُّها!