"الفوضى" الداخلية.. صراع نفسي يغيب الرؤية الواضحة للإنسان

الفوضى الداخلية.. صراع نفسي يغيب الرؤية الواضحة للإنسان
الفوضى الداخلية.. صراع نفسي يغيب الرؤية الواضحة للإنسان
رشا كناكرية

فكرة تتبع أخرى، تدفع الفرد كأنه في متاهة، ليعيش في فوضى داخلية تعكر أيامه وتذهب راحة باله ويقف عاجزا من أين يبدأ وما الطريق الذي يختاره ليخرج نفسه منها.

تتعدد المواقف والظروف التي تؤثر على حياة الإنسان سلبا وتؤخر في سعيه للإنجاز، وتسبب له شعورا بأنه يعيش مشاعر من الفوضى الداخلية بأفكار تختلف عن بعضها بعضا، فالجميع يمر بهذه الحالة في مرحلة من حياته قد تذهب وتعود، ولكن الأهم أن يعرف كيف يخرج منها ويعود لصفاء ذهنه ويعيد ترتيب شتات نفسه ليستمر في مسير حياته. وفي مثل هذه اللحظات، هنالك أشخاص أدركوا مدى أهمية البحث عن منفذ للخروج، واستراتيجيات وطرق متنوعة تعيد التركيز والهدوء الداخلي والصفاء الذهني والتفكير المنظم. تصف سوسن (28 عاما) تلك الحالة بأسوأ شعور يمر عليها، إذ إن هذه الفوضى تفقدها تركيزها وتشعرها بالعجز في عملها وبيتها وتخل توازنها وتدخلها في حالة عصبية مستمرة “بتمر علي أيام وأنا طول الوقت معصبة ومتوترة”. وتبين سوسن أن هذه الفوضى أثرت على حياتها وتعاملها مع الآخرين بشكل سلبي، فقد أصبحت تفرغ غضبها على عائلتها وهذا أكثر ما أشعرها بالألم، لهذا بحثت عن الطريقة الأنسب لتخرج من هذه الفوضى. وبعد محاولات عديدة للتخلص منها، وجدت سوسن السكينة في الجلوس وحدها لتعيد التوازن لأفكارها ولتضع نهاية لهذه الفوضى، إذ تجلس تتأمل في أفكارها وتحاول أن تتخلص مما يعكر صفوها فتعيد ترتيب أهدافها لتستمر في خططها. بينما فادي (33 عاما)، وجد في المواجهة طريقا للخروج من هذه الفوضى التي تفسد أيامه وتقلق راحته وتجعله يمر في أرق دائم. يمتلك فادي الكثير من الأهداف وتتضارب الأفكار داخل عقله من أين يبدأ وما الأهم، إلى جانب شعور الخوف من الفشل الذي يرافق أيامه، فقد وجد أنه هو المسبب الرئيسي لهذه الفوضى. كان القرار بأن يواجه ما يخافه، فهو مؤمن تماما بفكرته، ولكن ما احتاجه هو الشجاعة لمواجهة خوفه، وبعد أول مواجهة له وجد الإنجاز يتحقق، وهذا ما أسعده “قررت أوجه الي بخاف منه” يقول فادي، واضعا في الحسبان احتمال الفشل، كما يركز على مقاومة أفكاره المتضاربة بالمنطق والتخطيط لكل خطوة للوصول للإنجاز، وهذا ما ساعده على الخروج من فوضاه الداخلية التي تؤثر على حياته وإنجازاته. ومن الجانب النفسي، بيبن الدكتور علي الغزو أن الفوضى الداخلية وتشتت الأفكار مرحلة يمر بها كل إنسان بمختلف الأمور الحياتية، فقد يكون تشتتا أكاديميا أو مهنيا أو اجتماعيا متعلقا بالأسرة أو بالعلاقات بين الأصدقاء. ويوضح الغزو أن السبب الرئيسي الذي تنجم عنه هذه الفوضى هو عدم وجود أهداف واضحة ومحددة عند الفرد وغياب الرؤية لما يريد أن يقوم به الذي أساسه غياب التخطيط السليم، فالطبيعي أن تكون النتيجة العيش بحالة نفسية من الفوضى وتشتت الأفكار. ويشير الغزو الى أن الفرد قد يعلم الأسباب، ولكن في بعض الأحيان لا يمتلك الطاقة لتصويب أو تعديل هذا الأمر، فقد يكون خوفا من المواجهة أو أن عنصر اللامبالاة يسيطر عليه. ويؤكد الغزو أن هذه الفوضى هي مرحلة تحمل أبعادا نفسية سلبية على الفرد ونتائجها كذلك، إذ يعيش داخل الفرد صراع نفسي في ظل غياب الهدف الواضح والرؤية، وقد يمتلك هدفا ورؤية، ولكن تقديره للأمور غير صحيح. ويفسر الغزو أن الفرد يقع ضحية في مصيدة التخطيط غير المتقن، إذ يمتلك الهدف والرؤية والأفكار، ولكن التخطيط غير متقن، إضافة إلى المبالغة في تقدير الأمور. ويتابع الغزو أن الفرد في مرحلة من المراحل قد يزعزع ثقته في نفسه نتيجة ارتكابه الأخطاء، وقد تتغير نظرة الآخرين له، لذلك فإن تشتت الأفكار في مرحلة ما قد يقوده لاتخاذ قرار غير صائب، وهذا القرار قد يلحق الضرر بالفرد نفسه أو بالآخرين وعليه أن يتحمل نتيجة ذلك. ويذكر الغزو أن الآثار النفسية التي يعيشها الفرد في حالة الفوضى تتعدد بين التوتر والعصبية وقلة التركيز، إضافة الى القلق والاكتئاب والخوف، وتكون حالته النفسية غير مستقرة، مبينا أن هذا الأمر يتعبه ويسبب له ضررا نفسيا وجسديا، وهذا قد تنعكس نتائجه على الآخرين، إذ إن التعبير عن مشاعر الغضب والحالة العصبية التي يعيشها قد يضر غيره، وفي أسوأ الأحوال قد يلجأ للهروب أو الاستسلام، لهذا فإن المتضرر الأكبر هو نفسه. “ومن جهة أخرى، فإن الأشخاص المحيطين يلعبون دورا مهما، فقد يكون لهم تأثير بتقديم النصح والإرشاد، وفي بعض الأحيان قد لا يتقبل الشخص النصيحة، مؤكدا دورنا كأفراد في المجتمع أن نساعد ونقدم يد العون لهؤلاء الذين يعانون من ظاهرة تشتت الأفكار ونوجههم بالطريقة الصحيحة”، بحسب الغزو. ويشير الغزو الى أن الخروج من هذه الحالة يعتمد بالدرجة الأولى على الفرد نفسه وعلى مدى القناعات والخبرات التي تعلمها من الذي مر به، إذ يأخذ استراحة وضمن جلسة تأملية ليعيد حساباته ويرى أين أخطأ وأصاب وما النتائج التي ترتبت، وخلال هذه الموازنة والجلسة التأملية ومراجعة الذات، يعلم مواطن الضعف والقوة، بعد ذلك يتصالح مع ذاته ويعيد الثقة في نفسه والتوازن ويصفي ذهنه. في دراسة نشرت في المجلة العلمية (Psychiatry Research: Neuroimaging)، وجد أن المشاركين الذين مارسوا اليقظة الذهنية، وهي أحد أنواع التأمل، بشكل يومي لمدة ثمانية أسابيع، تغيرت لديهم بعض المناطق في الدماغ، وهي المرتبطة بالذاكرة والوعي الذاتي والتعاطف والتوتر. ولاحظ الباحثون أن التأمل اليومي من شأنه أن يؤثر على المادة السنجابية في الدماغ (Grey matter) بشكل إيجابي. وأفاد الباحثون بأن التأمل اليومي يغير الدماغ في غضون 8 أسابيع حقًا وليس فقط من خلال الدخول في مرحلة السكينة والطمأنينة، التي تنعكس إيجابًا على الصحة النفسية. كما أشار المشاركون الذين مارسوا التأمل اليومي لمدة ثمانية أسابيع، أن مستوى التوتر لديهم قد انخفض، وترافق ذلك مع انخفاض مستوى المادة السنجابية في منطقة اللوزة (Amygdala) المسؤولة عن مشاعر التوتر والقلق. وأوضح الباحث الرئيسي في الدراسة، أن دور التأمل اليومي في تغيير الدماغ خلال ثمانية أسابيع كان كبيرًا وملحوظًا، وهذا يعني فوائد وآثارا إيجابية أكبر للتأمل في حال ممارسته لفترة طويلة وجعله ضمن الروتين اليومي الخاص بالإنسان. ويشير الغزو إلى أن الاستراتيجيات والطرق للخروج من الفوضى الداخلية متعددة، منها التسامح مع النفس ومع الآخرين ومواجهة المخاوف، مبينا أن الفرد عندما يكون مقتنعا بفكرة معينة ويريد تنفيذها عند اتخاذه قرار مواجهتها، يجب أن يكون مستندا لتخطيط سليم بعد التأمل وتصفية الأفكار والذهن. ويذكر الغزو أن المواجهة لها خطوات أولية، بداية بأن يجلس الشخص مع نفسه ويدرس الأمر ويخطط بطريقة سليمة، وهذه أيضا استراتيجية للتخلص من الفوضى الداخلية، بحسب الغزو، ويتحدث هنا عن المواجهة المبنية على أسس وخطوات سليمة لم تأت من عبث، بحيث يتم الوصول لمواجهة سليمة، وهذا يخفف الصدمة الناتجة عن المخرجات والنتائج التي يمكن أن يتعرض لها الفرد من تأنيب الضمير والعتاب الذاتي، ففي حال فشل تكون أخف وطأة من إنسان واجه ذلك من دون أن يمر بالخطوات السليمة. “والشخص الذي واجه من دون تخطيط وتنظيم أو تأمل، يدخل في جلد ذات وتأنيب ضمير كبير مقارنة مع الإنسان الذي سعى بالخطوات الصحيحة”، وفق الغزو. ويختم الغزو حديثه، بأن الإنسان الذي يريد أن يتخلص من الفوضى الداخلية وتشتت الأفكار بإمكانه الخروج من هذه المتاهة، فهي عملية تنظيمية قائمة على الفرد نفسه بدرجة أولى، وعلى الأشخاص والبيئة التي يمكن أن تساعده وتسانده بدرجة ثانية، ودائما التنظيم والتخطيط ووضوح الأهداف والرؤية هي الطريق الصحيح للمواجهة.

اقرأ المزيد :

شهوة التفكيك وصناعة الفوضى…

اضافة اعلان