القارئ العربي: تنشيط الدورة العقلية

معاذ بني عامر

مؤخراً، كنتُ أبحث عن سياقٍ جديد للعلاقة بين العالمين الغربي والإسلامي، بما يُحجّم من سردية الكراهية التي كُتبت متونها منذ زمن بعيد، إلى درجة ترسّخها -وهذا هو الأخطر- في اللاوعي الجمعي بالنسبة لطرفي المعادلة؛ وتمظهر هذه الكراهية على هيئة سياقات عنيفة أدت إلى مذبحة كبيرة امتدت على مدار قرون طويلة، وما تزال أنساقها الدموية تتجلّى يوماً إثر يوم، إلى حدّ أصبح معه طرح فكرة التصالح بين العالمين الغربي والإسلامي مسألة شبه مستحيلة. فظاهرة مثل الـ"إسلاموفوبيا" تجعل الغربي ينكفئ على عقبيه، ويعود خطوة إلى الخلف في علاقته بالعالم الإسلامي. وظاهرة مثل "الاستعمار" جعلت المسلم ينطوي على نفسه، رافضاً فكرة التصالح مع الغربي؛ فهو لا يضمر له إلا الكراهية والحقد، ولا يسعى إلا إلى القضاء عليه، والنيل من دينه وما يحيط بهذا الدين من مقدسات.اضافة اعلان
ولقد كان لأفكار بعينها أن تُغذّي سردية الكراهية بين كتلتين بشريتين ضخمتين. وقد يكون مكمن الخطورة الكبيرة في مثل هذه الأفكار، هو انتقالها -مع مرور الزمن- من السياق المعرفي إلى السياق البيولوجي؛ سواءً بالنسبة للمسلم أو للغربي. فهو يرث "جين" الكراهية وراثةً، لذا يصبح الدفاع عنه واجباً مقدساً تجاه الجماعة التي منحته "كروموسوم" الكراهية هذا. وبموجب هذا الدفاع البيولوجي، تمَّ رهن حيوات الإنسان لما هو غرائزي بالدرجة الأولى، أكثر من ارتهانه لما هو عقلي. فالمسلم إذ يصاب برهاب ساعة سماعه مفردات مثل: استعمار، استشراق، الغرب... إلخ، هو رهين لثقافة جمعية تضغط باتجاه إلغاء فردانيته في البحث عن سياقات جديدة تربطه بالبشرية دونما إكراهات قَبْلية لم يكن له فيها ناقة أو جمل. والغربي الذي يرتعب من مفردات مثل: الإسلام، الحجاب... إلخ، هو أيضاً رهين لثقافة جمعية تضغط باتجاه إلغاء فردانيته في البحث عن سياقات جديدة تربطه بالبشرية دونما إكراهات قَبْلية لم يكن له فيها ناقة أو جمل.
إذن، مؤخراً، كنتُ أبحث عن سياق جديد خارج ما هو مُؤطّر ومرسوم، بطريقة تجعل من الإنسان محض كائن غرائزي لا يجيد إلا ردّات الفعل الجاهزة والناجزة، بما يلغي نشاطه العقلي وقدرته على تفعيل دوره الإيجابي في هذا العالم؛ فحدوده العقلية موضوعة في تابوت الجماعة، ومُغلق عليها تحت الأرض. وقد وجدت عديد كتب تتحدّث بإيجابية عن العلاقة بين العالمين الغربي والإسلامي، ويمكن تغذيتها لغاية التأسيس لسردية جديدة بينهما، مغايرة تماماً لسردية الكراهية التي اضطلعت بها أجيال كثيرة ومتعاقبة، وكانت نتائجها كارثية، حطّت من القيمتين العقلية والأخلاقية للإنسان، وجعلته يبتهج بكلّ ما هو دموي ومميت، ويمتعض مما هو سلمي وباعث على الحياة.
من بين هذه الكتب: 1- "جيفرسون والقرآن" لـ"دينيس سبيلبيرغ"؛ 2- "الكفّار: تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام" لـ"اندرو هويتكروفت"؛ 3- "الإسلام" لـ"كلود كاهن"؛ 4- "تاريخ الفكر العربي والإسلامي" لـ"دومينيك أورفوا"؛ 5- "الإسلام شريكاً" لـ"فريتس شنيبات"... إلخ (سأكتفي بذكر ما ذكرته هنا لضيق المساحة، على أن أعود في مقام آخر للتفصيل أكثر في مثل هذه الكتب).
هذا من جانب الغرب. أما في الجانب العربي، فإني سأذكر كتاباً واحداً هَهُنا، لما له من علاقة مباشرة بما ذكرته في كلّ من العنوان والمتن سواء بسواء. فكتاب "الصوت والصدى: مراجعات تطبيقية في أدب الاستشراق" لـ"غسان عبدالخالق"، يعمل من ناحية على البحث عن علاقة جديدة مع الغرب خارج إطار ما هو مُتعارف عليه، نظراً لانطواء هذا التعارف على حالة إكراهات كبيرة، كان لها الأثر السلبي في طبيعة العلاقة بين الإسلام والغرب. ولتعزيز هذا السياق، فإنه يعمل على مراجعة الأدب الاستشراقي بتجلياته كافة، لغاية البحث عمّا هو خيّر ونافع في هذا الأدب، بما يفضي إلى: 1- كسر الصورة النمطية عن الاستشراق في أذهان المسلمين، وتحطيم ما حاط بهذه المفردة من صور سلبية كانت سبباً في تعزيز ثقافة الكراهية بينهم وبين الغرب؛ 2- البحث عن أفق تصالحي جديد مع الغرب، يتأسَّس على المعرفة بحدّ ذاتها، ومحاولة تفكيك مدلولاتها، بعيداً عمّا هو جاهز وناجز على المستوى البيولوجي أو السيكولوجي، ففكّ لغز الاستشراق يتطلّب معرفةً به، تحديداً من مصادره الأصلية، بما يضع الإنسان وجهاً لوجه مع قضية لطالما قرّر الآخرون (= أساتذة الجامعة، المُفكّرون/ الكُتّاب/ الصحفيون/ الأيديولوجيون... إلخ) سياقاتها، ودفع هذا الإنسان ثمنا باهظاً نتيجة لتصديقها.
ولغاية التحقّق في هذا، يعمد "غسان عبدالخالق" في كتابه المذكور أعلاه، إلى إشراك القارئ في النصّ، بما يتجاوز المؤلف أساساً، ويجعله يتجاوز الأطروحة التي لا تجعل من القارئ إلا متلقياً سلبياً، بل هو شريك حقيقي في صناعة سياقات الكتاب على المستوى المعرفي. فتضمين الكتاب نصوصاً استشراقية أصلية، رغم تعقيبات المُؤلّف عليها، ستجعل من القارئ حُرَّاً في تعامله مع هكذا نصوص، والخلاص من فكرة الوصاية التي يمارسها الكاتب في العموم؛ فهو إذ يكتب فإنه يسعى إلى إقحام القارئ في وجهة نظره، طوعاً أو كرهاً، إلا أن هذا الكتاب إذ يشتغل على فكرة إدخال القارئ في النص، فإنه يؤكّد فردانية الإنسان، ويدفع باتجاه هذا الخيار الحُرّ، بعيداً عن أي إكراهات يمكن أن تحْجر على خيارات القارئ وتجعل منه محض مُتلقٍ سلبي لما يريده الكاتب. فالكتاب يمثّل دورة في دولاب المعرفة الكبير، فهو يُؤسّس لسياقين يمكن أن يكون لهما الأثر البالغ على توجّهات الثقافة العربية في المرحلتين الآنية والمستقبلية:
الأول: الانتقال بالقارئ من طور السلب السيكولوجي إلى طور الإيجاب المعرفي، بما يُنشّط دورته العقلية. ولربما كان تضمين مثل هذا الأمر في النظام التربوي، سواء في المرحلة المدرسية أو في المرحلة الجامعية، من الأهمية بمكان، لكي لا تنتصر ذاكرة التلاميذ والطلبة ومُدونات المحفوظات على فاهمتهم وقدراتهم النقدية، ولا يعود لهم من دور في الحياة إلا ترديد ما يُردّد الآخرون. وكتاب "الصوت والصدى: مراجعات تطبيقية في أدب الاستشراق" ينفع لأن يكون مقدمة تُدرّس في الجامعات، لأنه ينتصر لحقّ القارئ في تقرير مصيره المعرفي بعيداً عن إكراهات واستلابات الكاتب، كائناً من كان هذا الكاتب، حتى لو كان من دعاة الحرية والتنوير.
الثاني: فكّ الارتهان لما هو جمعي، والتأسيس للفردانية، تحديداً في جانبها الإيجابي، لا سيما إذا كانت تبحث عمّا هو إنساني، حتى مع من تمّ توريث جينات الكراهية لهم، واعتبارهم أعداء بشكل مُطْلَق. فالذات إذ تبحث عن سياق تفاعلي جديد مع الآخر المغاير، سياق غير متوارث وغير يقيني، فإنها تسعى إلى تعزيز قيمتها الفردية بالبحث عن المشترك الإيجابي، وتقديمه إلى واجهة العلاقة بينهما، بما يعزز من النشاط الفردي على مستوى الإنسانية جمعاء، وعدم الركون إلى أحكام مسبقة، سنَّنت العلاقة بين الغرب والإسلام، وجعلتها حادة مثل حدّ السيف، وجاهزة دائماً وأبداً لإحداث جرح وإسالة كثير من الدماء البريئة.
والكتاب الذي أنا بصدده، يفكّ الارتهان لما هو جمعي جاهز، وينتصر لما هو فردي في طور الإنجاز الدائم المُستمر، من غير ركون إلى ما هو ثابت ويقيني.