القراصنة والبحر والدُمى

تصوروا! مناورات ضخمة هندية أميركية في بحر العرب بمشاركة أضخم حاملة طائرات في العالم المسماة (رونالد ريغان) وغواصة أميركية نووية الدفع، وأكثر من تسعة آلاف بحّار من خيرة القوات الهندية بحجة مواجهة أعمال القرصنة في البحر الأحمر، ودوريات اسبانية مكثفة، وكل من ألمانيا والهند والولايات المتحدة وكندا ترسل قطعا بحرية تجوب البحر الأحمر بحثا عن القراصنة الصغار، بينما أعلن وزير الدفاع الفرنسي عزم ثماني دول من أعضاء الاتحاد الأوروبي إرسال قوات للقيام بمهمات أمنية في البحر الأحمر وقبالة السواحل الصومالية.

اضافة اعلان

كل هذا الحشد الأممي واستعراض القوة من أجل تأديب حفنة من لصوص البحر الصغار، حيث لا يتجرأ أحد على الكلام أو التساؤل، من أين جاء هؤلاء القراصنة؟ وكيف تعاظمت قوتهم، وبالأحرى ما هي حدود قوتهم الحقيقية؟ وما علاقتهم بصراع القوى الإقليمي الجديد الممتد من تل أبيب مروراً بأنقرة وصولاً إلى طهران.

العارفون في استراتيجيات البحار عبر التاريخ لا ينكرون أن هذا البحر الذي تطل عليه اليوم ست دول عربية إلى جانب إسرائيل واريتريا، وتصل مساحته إلى 457 ألف كم2 كان نقطة جذب لصراعات دولية لم تتوقف. منذ صراعات الرومان والأنباط والصقالبة، مرورا بحروب البرتغاليين والإنجليز والفرنسيين ولم تتراجع السمة العربية لهذا البحر العتيق ولم يتوقف الحضور العربي في إدارته في يوم، كما يحدث هذه الأيام.

وفي الحقيقة ان المنطقة الممتدة من السواحل الصومالية وإقليم عدن والمحيط الهندي تشهد نشاطاً للقرصنة البحرية لم يتوقف منذ سنوات طويلة، ولكن ليس بالحجم الذي حول منطقة الساحل الصومالي إلى اخطر منطقة بحرية في العالم، لقد تحول القراصنة الصوماليون من قطاع بحر صغار إلى ما يشبه التنظيم البحري المسلح، حيث يمتلكون من المعدات والتجهيزات والتسليح ما يجعلهم قادرين على شن هجمات محترفة وسريعة، والقيام بأعمال اعتراضية في وسط ظروف قاسية للغاية.

مجموعة من الزوارق الخفيفة المزودة بأحدث تكنولوجيا الاتصالات، وبأسلحة متطورة تستطيع أن تقطع مئات الكيلومترات عرض البحر غايتها المعلنة ابتزاز السفن والدول وإجبارها على دفع ملايين الدولارات لكن الغاية الحقيقية وراء أعمال القرصنة التي لم تشهد مثلها المنطقة ليس حفنة دولارات بل لدى من زود هؤلاء القراصنة الصغار بالتكنولوجيا وبالأسلحة وبالقوارب السريعة وبنظم الاتصالات المتطورة.

القراصنة الكبار ليسوا من يحتجز سفينة مقابل مليون دولار أولئك هم من يحاولون احتجاز البحر الأحمر بأكمله عبر محاولة تدويله وتحويله إلى ساحة خلفية لصراعات جديدة ومصالح جديدة حيث اكبر نقطة ازدحام لخطوط التجارة الدولية وأكثر منافذ العالم البحرية حساسية.

هناك محاولات إسرائيلية عديدة للسيطرة على البحر الأحمر ومنافذه الحرجة في باب المندب والسويس تعود إلى بدايات نشأة هذا الكيان وكثيرا منا يتذكر أحداث التفجيرات في مطلع الثمانينات التي تعرض لها البحر، واليوم يزداد الصراع الإسرائيلي والإيراني للسيطرة على هذا البحر وسط زفة دولية صارخة وصمت عربي مقابل؛ جعل العرب الذين يستحوذون على 96% من شواطئه -إذا ما افترضنا أن اريتريا دولة غير عربية- إلى مجرد دُمى سياسية صامته يتلاعب فيها القراصنة الصغار والكبار معاً.

ازداد توغل الوجود والنفوذ الإسرائيلي بشكل مكثف خلال السنوات العشر الماضية في القرن الإفريقي ومحيط البحر الأحمر مع ازدياد المجاعات وحروب العصابات، وبالتزامن مع ازدياد نفوذ إيراني على شكل استثمارات ومساعدات إنسانية حتما ستتحول إلى محاولة حضور عسكري قريباً لحماية هذه المصالح؛ مع غياب عربي مخجل ورفض حتى لدعوات إقليمية لفرض تفاهم استراتيجي حول أمن البحر الأحمر تقف عليه اكبر دولتين لهما شواطئ على هذا البحر وهما السعودية ومصر.

عملية التدويل مؤقتة والمطلوب إدخال قوى إقليمية جديدة تهمين على إدارة هذا البحر ومن يستحوذ على هذه الهيمنة يسيطر على أعصاب العالم؛ حيث الممر الملاحي العملاق لنقل البترول العربي إلى الدول الأوربية والولايات المتحدة، واكبر منفذ لمرور السلع الصناعية من هذه الدول إلى قارتي آسيا وإفريقيا إلى جانب القيمة العسكرية التي أثبتتها الحروب الأخيرة.

أعصاب العالم التي تراقب أفعال القراصنة الصغار في طول البحر وعرضه وسلوك القراصنة الكبار تكاد تنفلت، بينما أعصاب العرب مدفونة في أعماق مياه البحر الباردة.

[email protected]