القرضاوي يوضّح أنّ هناك أشياءً يقولها الرسول بمقتضى الخلقة والطبيعة، وأشياء يقولها بحكم الخبرة البيئية

القرضاوي يوضّح أنّ هناك أشياءً يقولها الرسول بمقتضى الخلقة والطبيعة، وأشياء يقولها بحكم الخبرة البيئية
القرضاوي يوضّح أنّ هناك أشياءً يقولها الرسول بمقتضى الخلقة والطبيعة، وأشياء يقولها بحكم الخبرة البيئية

رئيس اتحاد العلماء المسلمين:  بعض الأحاديث والسنن للتشريع وبعضها ليس للتشريع

عمان-الغد- بعد أن تحدث د. يوسف القرضاوي في حلقة الأمس عن القرآن وفريضة تدبره، ومناهج التفسير والبيان له، يتطرق اليوم في الحلقات التي تنشرها "الغد"، بالتزامن مع بثها على قناة أنا الفضائية (ويحررها الزميل مصطفى عبد الجواد من القناة) إلى السنّة النبوية وأهميتها ومنزلتها في تفسير القرآن وبيان أحكامه، ومكانتها بين مصادر التشريع الإسلامي، وثبوتها وأقسامها.

اضافة اعلان

"ما قاله الرسول بصفته ربًا للأسرة يختلف عما قاله بصفته رئيسًا للدولة وإمامًا للمسلمين، وأيضًا يختلف ذلك عما قاله بصفته قاضيًا". هكذا فرق د. يوسف القرضاوي بين الشخصيات المختلفة للنبي صلى الله عليه وسلم، باعتبار ذلك مدخلا ضروريًا لمعرفة وفهم ما يندرج من السنّة النبوية تحت إطار التشريع وما يخرج عن ذلك.

،القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، شدد كذلك على أنه لا يجوز قبول أي حديث إذا تعارض متنه مع نص قرآني قطعي، معتبرًا أن القرآن يعد المعلم الرئيسي لفهم السنّة النبوية.

وفنّد القرضاوي الدعاوى التي تطعن في السنة النبوية، بزعم اختلاط الصحيح بالمكذوب، موضحًا أنه ليس هناك نبي خدمت سنّته كما خدمت سنّة النبي الكريم، حيث قام عشرات الآلاف بنقلها وتوثيقها جيلا بعد جيل.

واعتبر أن السنّة لم تبتل فقط بمن وضعوا فيها ما ليس منها أو من طعنوا في حجيتها، لكنها ابتليت أيضا بمن أساء فهمها، مشددًا على أن تأويل الجاهلين يفقد السنّة معناها، ولا يقل خطرا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين.

- نود في البداية أن نعلم ما مفهوم السنّة؟

السنّة هي المصدر التالي للقرآن الكريم في التشريع والدعوة والتربية، فهي بجوار القرآن جنبًا إلى جنب، مبينة له، كما قال الله تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، ويعرف العلماء السنّة: بأنها ما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل، أو تقرير، أو صفة، أو سيرة، وهناك تعريف للسنّة في الجانب الأصولي، يقصرها على الفعل والتقرير، إنما السنّة عند المحدثين تشمل كذلك ما هو من الوصف؛ مثل القول إن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، أو أنه كان إذا سُر استنار وجهه كأنه فلقة قمر.

هذا الوصف الخَلقي أو الخُلقي، وأيضا السيرة، يدخل في السنّة النبوية، مثل أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولد في شهر ربيع الأول، أو في يوم الاثنين، أو أن أول ما بُدئ ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الوحي، هو الرؤية الصادقة، فكان لا يرى رؤية إلا جاءت كفلق الصبح، كما روي عن عائشة، كذلك ما روي عن ولادته وإرضاعه، وشبابه، فكل هذا يدخل في السنّة.

-فضيلتكم مع الأصوليين، أم مع المحدثين؟

ليس هناك تعارض بينهما، هؤلاء معنيون بهذا الجانب، وهؤلاء معنيون بذلك الجانب، كما أنه أحيانًا يراد بالسنّة شيء آخر، وهو ما يقابل البدعة، أي سنّة وبدعة، وهناك تعريف آخر عند الفقهاء وهو: أن السنّة ما يقابل الفرض ، فهذه التعريفات ليست متعارضة، وإنما هو اختلاف مصطلح عند كل فئة من الفئات.

منزلة السنّة

- إذا كانت السنّة عبارة عن قول، أو فعل أو تقرير، أو صفة، أو سيرة، فما منزلة السنّة في الإسلام؟

منزلة السنّة في الإسلام، كما قلنا إنها المصدر التالي للقرآن الكريم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ كما أمر بطاعة الله أمر بطاعة رسوله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وقال: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، وقال: (وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، فاعتبر طاعة الرسول من طاعة الله.

- ما طبيعة الأحكام التي تأتي بها السنّة؟ هل هي أحكام مؤكدة، أم مبينة؟ وهل السنّة تأتي بأحكام جديدة؟

هناك خلاف في هذا، هل السنّة تأتي بحكم جديد، أو لا تأتي بحكم جديد، وجزء من الخلاف يتعلق بمعنى "حكم جديد"، فالبعض مثلاً يقول إن السنّة جاءت بتحريم الذهب على الرجال، أو تحريم أواني الذهب والفضة، فهذا حكم جديد، والبعض يقول: لا هذا ليس حكمًا جديدًا، فالإسلام أمر بحياة الاعتدال، ونهى عن الترف، فاعتبروا أن أواني الذهب والفضة ومفارش الديباج والحرير من مظاهر الترف.

- كذلك الجمع بين المرأة وعمتها؟

هذا قياس على ما جاء في القرآن، (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ)، الرسول أخذ من هذا القياس أنه كما أن الجمع بين الأختين يسبب قطيعة الرحم، كذلك الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، "إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم".

فيمكن إن توسعنا في هذا النوع، نقول لا السنّة لم تأت بجديد، ويمكن أن نقول: لا، جاءت بمثل هذه الأحكام، وربما كان القول بأن السنّة من شأنها أن تنشئ أحكامًا في بعض الأحيان، هو القول الأثبت.

الغالون والمبطلون للسنّة

- ابن جرير، وتمام في فوائده وغيرهما، رووا حديثًا عن ابن عمر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"، وأود أن نستمع إلى نظرتكم في هذا الحديث من جهة السند ومن جهة المتن.؟

الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث، فصححه، وابن القيم قواه في بعض كتبه، خصوصًا في رواية البيهقي، وهو معقول فعلاً، حيث إنه يحمل هذا العلم في كل جيل من الأجيال عدول هذا الجيل، أي الناس الثقاة الذين يحملون علم النبوة، وينفون عنه هذه الأصناف الثلاثة، تحريف الغالين، باعتبار أن الغلو كأنه تحريف للدين، وهذا ينفرنا من الغلو، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" رواه ابن مسعود في صحيح مسلم.

كذلك يشير الحديث إلى "انتحال المبطلين" الذين يزورون على رسول الله ما لم يقله، وهذا عن الأحاديث المكذوبة، وهذا يتماشي مع الحديث الذي قال: "من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، وثم هناك خطر آخر وهو تأويل الجاهلين.

- البعض يقول أحيانًا إذا كان القرآن تبيانًا لكل شيء، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ) فما الحاجة إلى السنّة؟

القرآن الذي قال هذا، هو أيضا الذي قال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وما معنى كل شيء؟ هو الأصول التي لا بد منها للعلم، للعقيدة، للعبادة، للأخلاق، للتشريع، للآداب، يعني أصول كل شيء، لكن الفروع والتفصيلات تبينها السنّة، وهذا هو الواقع، فالرسول هو المبيّن.

- هم يقولون كذلك بأن القرآن محفوظ، وأن الله عز وجل تكفل بحفظه، لكن السنّة غير محفوظة.

الإمام الشاطبي له بحث في الموافقات، بيّن فيه بالدليل أن حفظ القرآن يستلزم حفظ السنّة، لأن السنّة هي بيان القرآن، وحفظ المُبين يستلزم حفظ بيانه، وإلا بقي بلا بيان، وبقي مُشكِلاً غامضًا، فقال: تكلف الله تعالى بحفظ القرآن يتضمن ويستلزم أن يحفظ بيان هذا القرآن وهو السنة النبوية.

تدوين السنّة

- لكن لماذا لم يتخذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاحتياطات اللازمة بالنسبة للسنّة كما فعل في القرآن، بمعنى في القرآن الكريم اتخذ كُتابًا وأطلق على هؤلاء أنهم كُتاب الوحي، أما السنّة فلم يجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها كُتابا، بل بالعكس نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكتب عنه شيء غير القرآن؟

النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ تعامل مع كل مصدر من هذين المصدرين بما يستحقه من الحفظ، حيث اعتبر القرآن هو المصدر الأول وهو كتاب الأمة ودستورها، فاتخذ من الاحتياطات في حفظ القرآن ما لم يتخذه للسنّة، ووفر كل الوسائل التي يجب أن تتوفر لحفظ القرآن، ففي هذا الوقت كانوا يكتبون في العظام، وفي اللخاف، وعلى الأشياء، وحرص النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على أن يكتب القرآن ولا يخلطه بشيء، حتى لا يدخل الحديث النبوي في القرآن الكريم، ولذلك جاء في هذا الوقت "لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه"، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري، والإمام البخاري لم يروه، وقال إن هذا حديث مرسل.

وهناك فرق بين القرآن والأحاديث، فالقرآن كله كلام الله، وكله تشريع، وأمر ونهي، إنما الرسول من كلامه ما لا دخل له في التشريع، لكن ومع أنه قال: "ومن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه" فإنه سمح لأشياء أن تُكتب، حيث سمح لعبد الله بن عمرو أن يكتب، وقال اكتبوا لأبي شاة، رجل من اليمن، وكَتب كُتبًا في الصدقات، وهناك أشياء كثيرة ذكرها العلماء عن السنة قبل التدوين، وهناك كتاب لأخينا الدكتور عجاج الخطيب عن "السنّة قبل التدوين".

- البعض يقول السنّة فيها الضعيف، وفيها الموضوع، وفيها المنكر، وفيها الواهي، فكيف نفرق بين هذا وذاك، وهل نترك كل السنّة حتى لا نأخذ حديثًا ضعيفًا أو موضوعًا؟

هذا الكلام يقال لو ترك الأمر ولم يوجد رجال نذروا أنفسهم لنخل السنّة نخلاً، وتنقيتها من الضعيف والواهي، والمنكر، والموضوع، ولا توجد سنّة نبي خدمت كما خدمت سنّة محمد، حيث توافر عليها آلاف الرجال، وترى كتب الرجال ومن فيها من عشرات الآلاف، وفي النساء ستة آلاف امرأة من الرواة.

هؤلاء الناس عاشوا لخدمة السنّة ونقلها وأخذها ممن سمعها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو رآها، وثم هذا ينقل لمن بعده، ومن بعده ينقل من بعده، ولذلك وضعوا علمًا لهذا الأمر هو "علم أصول الحديث"، أو "مصطلح الحديث"، ووضعوا فيه الشروط التي يُقبل فيها الحديث، ومتى يكون الحديث صحيحًا؟ ومتى يكون حسنًا؟ ومتى يكون موضوعًا؟

الأمة تعبت لهذا الأمر، وعبد الله بن المبارك سأله سائل فقال له: رويت عن فلان حديثًا في كذا وكذا،

فقال له: عمن أخذته؟

قال: فلان،

قال له: ثقة، عن من؟

قال: عن فلان

قال له: ثقة، عن من؟

قال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -

فقال له "ابن المبارك": إن بين فلان هذا وبين رسول الله مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل، أي مراحل بعدية فالخبر عن رسول الله لابد أن يكون منقولا ثقة عن ثقة، من مبدأ السند إلى منتهاه، وإذا وجدت فيه أي فجوة في أول السند، أو في وسطه، أو في آخره يرفض، لأنه غير متصل، ويسمى معضلاً أو معلقًا، أو منقطعًا، أو مرسلاً، ومعناه أن فيه خللا في تواصل سلسلة السند.

المتن والسند

- البعض يقول بأن هذا الاهتمام كان اهتمامًا بالسند دون المتن، وهو اهتمام بالشكل دون المضمون، فكيف نرد على هؤلاء، خصوصًا أن هناك فعلا بعض الأحاديث السند صحيح، وقد يوجد في المتن علة معينة.

الأولون كانوا يهتمون بالسند؛ لأنه يريد من سمع رسول الله، ومن سمع عمن سمع من رسول الله، وذلك كي يضبط الرواية، ثم بعد ذلك لما دخلت الفتن ودخل الكذابون، بدأوا يتحرون، وقالوا: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وقد رأى بعضهم كتابًا لمقاتل، فقال: يا له من علم لو كان له إسناد، فكان لا بد من السند، لكن لكي يكون الحديث صحيحًا، لا بد أن يسلم من الشذوذ والعلة.

- وما معنى ذلك؟

الشذوذ يعني أن يروي الثقة ما لم يروه الثقات الآخرون، ولذا يقول العلماء: تتبعوا الغرائب، بمعنى أن الراوي من الأشياء التي ترده ولا تجعل روايته مقبولة، أن يأتي بأشياء غريبة منكرة في موضوعاتها، ولا يأتي أحد غيره بها، فيرفض، فالشذوذ هو أن يروي ما لم يروه الآخرون، أو يشذ عما رواه الآخرون، ينفرد بما لم يروه الثقات.

أما العلة فقد تكون في السند وقد تكون في المتن، فالسيدة عائشة ترفض أحاديث يرويها بعض الصحابة، لأنها ترى أن المتن غير صحيح، وتقول له: لعلك لم تسمع، وذلك في حديث: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، حيث قالت كيف هذا وربنا يقول (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ) كما يقول تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

تشريع أم خبرة؟

- تقسيم السنة النبوية إلى سنة تشريعية، وسنة غير تشريعية، ألا يفتح الباب أمام "كل من هب ودب"  ليقول هذا تشريع وذلك ليس بتشريع؟

"من هب ودب" هذا لا يخيفنا، لأننا نحن علينا أن نقول الحق، ولا يهمنا "من هب ودب"، فالمهم أن نقرأ الحقائق، وعندما ننظر إلى ما روي من الأحاديث والسنن، نجد بعضه للتشريع، وبعضه ليس للتشريع، فهناك أشياء يقولها الرسول بمقتضى الخلقة والطبيعة، وأشياء يقولها بحكم الخبرة البيئية، كما في حديث تأبير النخل.

والإمام العلامة الشيخ ولي الله الدهلوي، له كتاب قيم يعد من كتب الإحياء والبعث الإسلامي في الهند وفي العالم الإسلامي، اسمه "حجة الله البالغة"، وقال فيه: إنه ما جاء عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أحاديث وسنن منه ما سبيله سبيل الرسالة، أي التشريع، ومنه ما ليس سبيله سبيل الرسالة، ومنه الطبُ"، يعني أمور الطب، التي جاءت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذلك الأدوية، فهي ليست من الوحي، وقالها الرسول بحكم الخبرة.

- لكن فضيلة الشيخ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له فيما معناه، بأنك بشر وأنك تغضب، فهل نكتب عنك حتى في حالات الغضب، فقال: اكتبوا فإنه لا يخرج من هذا إلا حق.

ما ذكره الرسول حق؛ لأنه ليس كذابًا، وهو لا يكذب ولا يقول باطلا، وإنما السؤال: هل هو وحي أم لا؟ وهل هو تشريع خاص أم تشريع عام، وهل هو تشريع دائم أم غير دائم، كما أن هذا أيضًا يدخل في شخصيات الرسول؛ لأن الرسول له أكثر من شخصية، والرسول له  تصرفات بصفته الشخصية، وبصفته الأسرية كرب أسرة، وبصفته إمام المسلمين ورئيس الدولة، وبصفته قاضيًا، وبصفته مفتيًا، والعلماء تعرضوا لهذه التصرفات وكل تصرف منها له حكم، فحينما قال: "من قتل قتيلاً فله سلبه"، هل قال هذا باعتباره قائد المعركة وينفذ كلامه في تلك الغزوة أم يؤخذ عنه كتبليغ عن الله وحكم عام؟. وإذا قال "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" هل قال ذلك بصفته إمامًا للمسلمين أم بصفته مفتيًا يبلغ عن الله؟ أبو حنيفة قال: إن الرسول قال ذلك بصفته إمامًا، ولذلك لا يجوز لأحدٍ أن يحيي الأرض إلا بإذن الإمام، وهكذا.

- لكم كتاب أسميتموه "السنّة مصدر للمعرفة والحضارة" ما معنى أن السنّة مصدر للمعرفة والحضارة، وهل المعرفة والحضارة تدخل في التشريع؟

الكل ينظر إلى السنة كمصدر للتشريع، حتى أنا دائمًا أقول للتشريع وللتوجيه، فنأخذ منها أساليب الدعوة وأساليب التربية، وليس فقط الحلال والحرام، والفرض والمستحب، وفي هذا الكتاب أردنا أن نقول إن السنّة مصدر للمعرفة، تعطي الإنسان معارف مهمة لا يحصل عليها من غير السنّة، كما أن القرآن أيضًا مصدر لمعرفة هائلة لا تؤخذ إلا من كتاب الله، كما أن السنّة مصدر للحضارة، ففيها الفقه الحضاري، والسلوك الحضاري، وذكرت أصولاً لذلك وقواعد وأمثلة.

فهم السنّة بالقرآن

- ذكرتم في كتابكم، كنت نتعامل مع السنّة، أن أول معلم من معالم فهم السنّة هو فهمها  في ضوء القرآن الكريم، فما معنى ذلك.

السنّة كما ابتليت بمن يكذب عليها ويبث فيها ما ليس منها، وبمن ينكر حجيتها ويقول إنه لا يؤخذ منها حكم، وإننا لا نؤمن إلا بالقرآن، والجماعة الذين يسمونهم في عصرنا القرآنيين، وهم ليسوا بقرآنيين، لأن القرآن هو الذي دعانا إلى الأخذ بالسنة (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عنه فانتهوا)  (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ابتليت كذلك بمن يسيء فهمها ويفهمها على غير وجهها، وهذا الذي قال فيه الحديث: "ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" فتأويل الجاهلين يفقد السنّة معناها.

وإذا وضعت السنّة في غير موضعها وفهم منها غير ما يراد أن يفهم منها، لم يعد لهذه السنّة معنى، ولذلك حرص رجال السنّة على أن يكتبوها ويشرحوها، ومن هنا جاءت شروح كتب السنّة المعروفة، وهي بالعشرات، مثل شروح البخاري وشروح مسلم، وشروح السنن الأربع، وشرح الموطأ، وشرح ابن حبان، وشرح مسند الإمام أحمد.

وأحد الضوابط الأساسية لفهم السنّة فهمًا صحيحًا أن توضع في ضوء القرآن الكريم، فالقرآن هو أصل التشريع، ولا يمكن أن نقبل السنّة من حيث الثبوت، أو نفهمها من حيث الدلالة إلا إذا كان القرآن هو الأساس الأول، وإذا وجدنا تعارضًا بين الحديث والقرآن لا يقبل الحديث، فمثلاً روى أبو داود حديثًا صححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ، قال: "الوائدة والمؤودة في النار" وأنا كقارئ للقرآن أجد قوله تعالى (وَإِذَا المَؤودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) بمعنى أنه  لا ذنب لها، فكيف تكون مؤودة وتكون مسؤولة عن وأدها؟ حيث ارتكبت في حقها جريمة من أبشع الجرائم، قتل طفل بريء بغير نفس، وقتله من جهة أبيه، وقتله بطريقة من أبشع الطرق، فلو ضرب بنته بالسيف فهذا أسهل، ولكن يحفر لها حفرة ويدفنها حية، ما ذنبها؟ ومع هذا الشيخ الألباني قبل هذا الحديث وصححه، لأنه نظر إلى السند فقط، وهذا ليس منهجًا صحيحًا لأنه إذا كان المتن والمضمون مخالفًا لقطعي القرآن لا أقبله.

-هل هذا ما يسميه علماء الحديث بأنه الشذوذ أو العلة؟

هذا يدخل في العلة، فالشذوذ هو أن يروي الثقة مخالفًا من هو أوثق منه، أما العلة فهي نوعان: علة المتن وعلة في السند ، ومن هذا تصحيحات الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير، حيث صحح عدة أحاديث تقول إن لحوم البقرة داء وليست دواء، وحكم عليها بأنها صحيحة وليست فقط حسنة، فكيف يكون هذا مع أن الله أحل لحوم البقر وقال: (وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ) وهي من الأنعام (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ)، و(الأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)  كما أن الرسول ضحى بالبقر، فالقرآن يجب أن يكون في الصدارة، وما يخالف القرآن لا يقبل، وهذا منهج لا بد أن نعترف به ونقره ويؤمن به كل من يريد أن يخدم السنّة أو يشرحها للناس.