القروض والمساعدات.. نفق مظلم بلا نهاية

الدكتور إبراهيم بدران ​​​​ ​

يلاحظ المراقب للأوضاع المالية والاقتصادية في البلاد، أنه خلال السنوات العشر الماضية تباطأ النمو الاقتصادي، وارتفعت معدلات البطالة إلى أكثر من 3 أضعاف المعدل العالمي، وزادت مساحات الفقر لتشمل 24 % من السكان وفي نفس الوقت، وارتفعت المديونية بمعدل 2.4 مليار دولار سنوياً. وهي أرقام ضخمة بكل المقاييس، ومفزعة من حيث مدلولاتها الإقتصادية والإجتماعية والنفسية. هذا على الرغم من استمرار المساعدات والمنح والهبات من دول عديدة.اضافة اعلان
ولعل الآلية المباشرة وراء هذه القفزات السريعة والخطيرة تتمثل في استسهال الحكومات المتعاقبة للاقتراض، بمعنى أنه ما أن يظهر عجز في الموازنة العامة، أو يتبلور التوجه نحو نشاط أو مشروع معين، سواء كان صغيراً بحجم مدرسة أو كبيراً بحجم محطة كهربائية أو طريق سريع، حتى تسارع الحكومة نحو البوابة الخارجية، والبحث عن قروض ومساعدات وهِبات من هنا وهناك.
وتسارع هذا النهج حتى راحت المديونية تتصاعد بوتيرة أسرع بكثير من النمو الاقتصادي، فتصاعدت من 18 مليار دولار عام 2012 إلى 30 مليار دولار عام 2017. ووصلنا اليوم إلى مديونية تعادل 43.7 مليار دولار، وخدمة للدين العام تتعدى 2.2 مليار دولار سنوياً.
يرافق ذلك بطبيعة الحال عدم الشروع بتنفيذ المشاريع بانتظار استكمال التمويل من المانحين والمقرضين. هذا النمط في الإدارة رسخ الإقتراض وكأنه أولاً: ليس هناك من شعب ولا مؤسسات وطنية يمكن أن تساهم في التمويل وتقدم البدائل والحلول. وثانياً: التركيز على مشاريع البنية التحتية في الإطار المباشر البسيط والابتعاد المقصود عن المشاريع الإنتاجية.
السؤال الذي يتطلب الإجابة، ولا ينبغي التهرب من مواجهته عاجلا أم آجلا هو: ما هي تبعات هذه المديونية المتصاعدة؟ وما هي النتائج القريبة والبعيدة حين تعتمد الدولة على المساعدات والقروض، وإلى متى؟ وهنا يمكن إيراد بعض المسارب الصعبة التي تنزلق البلاد نحوها بسبب سياسة الإعتماد المفرط على الخارج:
أولاً: خلخلة التراكم الرأسمالي في البلاد نتيجة لخدمة الديون وتسديد الأفساط، وتفضيل البنوك المحلية إقراض المؤسسات الرسمية بدلا من القطاع الأهلي.
ثانياً: تراجع معدلات النمو الاقتصادي، نتيجة لضعف رأسالمال الوطني وعزوف المستثمرين والإفراط في الإستيراد. فنسبة النمو منذ سنوات لا تتجاوز 2.3 %، علماً بأن معدل النمو السكاني الطبيعي 2.8 % سنوياً.
ثالثاً: تشويه منظومة الضرائب، فجاءت ضريبة المبيعات والضرائب على المشتقات النفطية على سبيل المثال لا تمييز فيها بين أصحاب الدخل المرتفع وأصحاب الدخل المتدني.
رابعاً: خلقت المديونية العالية حالة من فقدان المرونة والهشاشة الاقتصادية والمالية وعدم القدرة على التعامل مع الصدمات الاقتصادية أو المالية الدولية، خامساً: تصاعد كلفة خدمة الدين ،بكل ما يعني ذلك من صعوبات مالية وحرمان الدولة من فرص الاستثمار في مشاريع إنتاجية جديدة.
سادساً: التأخير المتواصل في تنفيذ المشاريع بانتظار توفير التمويل من القروض والمنح ،وما يستلزم ذلك من تعديلات على الضرائب والرسوم ومنظومة الأولويات.
سابعاً: اللجوء إلى تسليم المشاريع للشركات الأجنبية للعمل معها على أساس البناء والتشغيل والتسليم ب.ش.س. BOT بكل ما يعني هذا النوع من التعاقد من ضياع للفرص الاستثمارية على الاقتصاد الوطني نظراً لتحييد رأس المال الوطني من جهة، ولخروج عائدات المشروع وهو في أفضل حالاته إلى الخارج من جهة ثانية، واستلام المشروع بعد ان يوشك عمره الافتراضي على الانتهاء من جهة ثالثة.
ثامناً: تفاقم البطالة وارتفاع معدلاتها لتصل 25 % عام 2022 نتيجة لابتعاد القروض والمساعدات وعزوف المانحين عن المشاريع الإنتاجية والتركيز على مشاريع البنية التحتية غير الاستراتيجية، والتي تولد فرص عمل محدودة جدا بالمقارنة مع المشاريع الإنتاجية.
تاسعاً: إضاعة الكثير من الفرص على الشركات والمؤسسات الأردنية نظراً لأن القروض والمساعدات كثيراً ما تشترط فتح المناقصات لتكون على مستوى عالمي ،لتضمن دخول المقاولين من الدول المانحة بكل ما يعني ذلك من غياب التكافؤ بين المحلي والأجنبي، وتمتع الشركات الأجنبية بالإعفاءات والدعم غير المنظور من بلدانها.
ويدافع البعض عن الحالة الراهنة بالقول أن الكثير من دول العالم عليها مديونية عالية ابتداءً من الولايات المتحدة الأمريكية مروراً باليابان وفنلندا وكندا وانتهاءً بسنغافورة وقبرص التي تصل مديونيتها إلى 26 بليون دولار.. فلماذا القلق من المديونية في بلدنا؟ والإجابة بسيطة: حينما يكون الاقتصاد قوياً من منظور انتاجي وتكنولوجيومضطرد النمو فإنه يكون قادراً على التعامل مع الصدمات المالية دون أن يحدث خللاً في البنية الاقتصادية الاجتماعية، ولكن ضعف الاقتصاد وتواضعه يجعله هشاً لا يحتمل أي صدمة بل تنعكس الآثار فوراً على المجتمع وهو ما نشهدهبوضوح في بلادنا متمثلاً بالفقر والبطالة وتواضع التنمية في المحافظات.
وكان الملك عبد الله الثاني قد نادى "بالاعتماد على الذات" منذ سنوات.. ألا يعني الاعتماد على الذات التخفيف من الإعتماد على القروض والمساعدات؟ بل والخروج من هذا النفق المظلم إلى حدود مقبولة؟
ويقول البعض هل يمكن الخروج وتحقيق رؤية الملك ورغبة الشعب بالاعتماد على الذات، ونحن دولة لا نفط فيها، ولا غاز لديها، ولا مناجم ذهب او حديد؟إلى الدرجة التي يحلو لهم القول بأننا دولة فقيرة، ولايمكن أن نقيم المشاريع الإنتاجية الكبيرة، دون قروض أو مساعدات، كما كنا في النصف الثاني من القرن الماضي. والإجابة المباشرة: نعم نستطيع.. مع التذكير هنا ان الثروات الطبيعية لم تعداليوم مقياسا لغنى الدول بل رأسمالها البشري هو الثروة الحقيقية. هكذا حال عشرات الدول المتقدمة ابتداء من كوريا واليابان وسويسرا،و انتهاء بسنغافورة ومالطا.
إن الخروج من النفق يعني بشكل قطعي العمل على التحول للإقتصاد الصناعي التكنولوجي الإنتاجي الحديث في مختلف القطاعات، ورفع المستوى التكنولوجي لها وللمهن ما امكن. وبالتالي تنشيط الاقتصاد الوطني ليتعافى وينمو بمعدلات كافية لا تقل عن 6 % أو 7 %، ويعني تحول اعتماد الحكومة ليكون على العائدات من الاقتصاد القوي، وليس امتصاص رأس المال من المواطن والمؤسسات.
بمعنى أنه يمكن الخروج ولكن بشروط سياسية وإدارية ومجتمعية. وربما في الإطار التالي:
أولاً: أن تدرك الإدارات الرسمية أنه كلما توسعت البلاد في الاقتراض وطلب المساعدات كلما أصبحت البلد أكثر ارتهاناً للآخرين إلى درجة فقدان القدرة على القرار والخضوع للإملاءات من الخارج إلى درجة الانكسار.
ثانياً: أن لا قروض ولا منح ولا هبات دون شروط أو التزامات أو مراعاة سابقة أو لاحقة معلنة أو مخفية أو ضمنية لصالح جهة القرض أو المنحة أو المساعدة.
ثالثاً: أن الخروج من سرداب الاعتماد على الآخرين إلى فضاء الاعتماد الذاتي يتطلب الاعتماد على تمويل المواطن والشركات والمؤسسات والمصارف الوطنية سواء كان ذلك التمويل كبيراً أو صغيراً. ولكن المواطن لا يمنح الثقة للإدارة في التصرف بأمواله إلاّ إذا كانت هناك شفافية حقيقية ومساءلة منهجية منتظمة وفق مؤشرات الآداء الصحيحة، وإلا إذا تم تخليص المشاريع من الفساد المالي والإداري. وبالتالي على الإدارة اكتساب ثقة المواطن من خلال الحاكمية الحصيفة المبدعة النزيهة، والشفافية والإنجاز والبعد عن التنفيع والاستغلال.
رابعا: على الحكومة بمؤسساتها أن تباشر بإنشاء المشاريع الإنتاجية بالتشارك مع القطاعات الأهلية الوطنية ومن خلال الشركات المساهمة العامة والتعاونيات وتبدأ في المحافظات والارياف.
خامساً: الخروج من متاهة تكرار مراجعة قوانين وتنظيمات ولجان وبيروقراطيات الإستثمار إلى منظومة بسيطة يكون الأردن بكامله منطقة استثمارية واحدة لجميع المستثمرين ويترك لكل محافظة ان تمنح محفزات خاصة بها، في إطار تأجير الموجودات والاراضيوليس بيعها. وتعمل الحكومة على تخفيض كلف الإستثمار والإنتاج، في حين تكون الجامعات مستشارا تنمويا للمحافظات.
لقد التزمت الرؤية الإقتصادية، وكما أكد الملك ذلك، بتوليد مليون فرصة عمل في السنوات العشر القادمة أي بمعدل 100 الف فرصة عمل سنويا.
وهذا الهدف الطموح لا يحققه إلا جسم إداري رسمي مدرب ومؤهل ومتناغم مع مفاهيم الحكومة الإلكترونية، ومتفهم لدوره ومؤمن بواجبه من حيث التيسير والدعم والمساندة النزيهة للمشاريع وللرياديين ، بعيدا عن البيروقراطية والقراءة الضيقة للقوانين والتعليمات وبعيدا عن إنهاك المواطن والمستثمر. ولا يتحقق الهدف إلا بوجود خبراء ومفكرين مبدعين يساندون الدولة بابتكار حلول جديدة في إطار من الشراكة الصادقة مع القطاع الخاص والأكاديميا شعارها الإنجاز والمساءلة والمستقبل.