القضاء بين العدالة والسياسة

أظن أن مجامع اللغة العربية اليوم أمام مسؤولية كبيرة، تتمثل في كيفية إيجاد أو اشتقاق ألفاظ حديثة، قادرة على توصيف الصور البشعة التي ترسم في العديد من الدول، ومنها العراق وسورية. لأن بعض المفردات، ومنها القتل، والظلم، والإرهاب، والرعب، وغيرها من الكلمات الدالة على دركات الخراب الروحي والفكري التي وصل إليها بعض الأطراف الفاعلة في ميادين الجريمة، جعلت هذه الكلمات غير قادرة على التعبير عن حقيقة المأساة والتدمير اللذين نخرا الأرواح والأفكار والأجساد والأموال.اضافة اعلان
على سبيل المثال، كيف يمكننا أن نُسمي، أو نصف، مقتل العشرات في مكان واحد، وتناثر أشلائهم في كل مكان، نتيجة إرهاب رسمي وغير رسمي؟ هل نقول عنها: "مذبحة"، "انفجار"، "مجزرة"، "كارثة"، "مصيبة"، "جريمة"، "حادثة".. إلخ؟!
كل هذه العبارات لا يمكنها أن تصور، أو تنقل روح الخبر. لكن تعايش الناس مع الخراب والدمار والقتل والاختطاف والجرائم المنظمة، جعل هناك -كنتيجة طبيعية- أُلفة نفسية وعقلية ولغوية بين ما يحدث على الأرض، وفهم الناس له.
هذه الحيرة في فهم مثل هكذا مشاهد مرعبة، تنسحب على غالبية الملفات الحياتية العراقية اليوم، ومنها الملفات السياسية والأمنية والخدمية والقضائية، بل وحتى الدينية منها.
وكل هذا الخراب يمكن تحمله، لكن أن يصل الدمار إلى المؤسسة القضائية، فهذا ما لا يمكن تقبله وتحمله؛ لأن القضاء هو سر الوجود. فكما أن الماء هو سر الحياة، فإن القضاء هو سر حياة الأفكار والعقائد.
ورغم عتمة واقع القضاء، إلا أن هناك نسبة من القضاة العراقيين -وهي مع الأسف قليلة- ممن يعرفون قدر المسؤولية المُلقاة على عاتقهم. ولهذا ما يزالون حتى الآن نبعاً رافداً للعدالة، رغم الإغراءات والتهديدات التي تلقوها من أطراف فاعلة. وهم الآن بين مطرقة العدالة وسندان الزعماء، ورغم ذلك هم صابرون، يحكمون بالعدل، ويجعلون مخافة الله فوق إرهاب السياسيين والمليشيات.
الحديث عن العدالة في العراق اليوم، هو ضحك على الذقون. ولذلك صرنا نسمع في الإعلام أسماء لامعة في عالم القضاء العراقي، يظهرون على شاشات الإعلام، ويتحدثون بالعدل والإنصاف ورفض الظلم، وبالشفافية والمهنية، ومن يسمعهم يقول: والله هذه عدالة السماء تطبق في أرض الرافدين.
لكن هؤلاء القضاة أنفسهم تصدر لهم، ومنهم، الكثير من الأوامر من جهات سياسية ومليشياوية فاعلة في الميدان، تجعلهم يقلبون -في لحظة ما- المجرم بريئاً، والقاتل إلى حمامة سلام، والجلاد إلى مقاوم، واللص إلى عفيف، والمطلوب أمنياً إلى نائب، والفاسد إلى نزيه.. وهكذا دواليك!
وقبل أيام، حدثني أحد كبار المسؤولين السابقين في العراق عن واحدة من المهازل التي تدان بالإعدام في غالبية بلدان العالم.
الحادثة وقعت قبل ستة أشهر تقريباً، وهي باختصار أن قائداً عسكرياً وصلت جرائمه إلى مستويات مرعبة؛ فهو زعيم وحدة عسكرية، واجبها حماية المواطنين، لكنها في الواقع متخصصة بالقتل والاختطاف واعتقال الناس وابتزاز ذويهم بمالغ خيالية.
وبمرور الزمن، انكشفت جرائم هذا الزعيم المدعوم من أحد الأحزاب الحاكمة، وتم تشكيل لجنة تحقيقية نتيجة للضغوطات الكبيرة بضرورة إيقاف جرائمه التي صارت علنية، وتم التكتم من بعض القيادات على اللجنة خوفاً من عمله على إخفاء آثار الجرائم.
وبعد أيام، وصلت اللجنة إلى مقر الفوج وكان الضابط (المجرم) قد وصلته معلومات عن اللجنة؛ وفوراً بدأ بنقل عشرات المعتقلين إلى مراكز احتجاز أخرى. وحينما وصلت اللجنة واجهته بالحقائق، وأماكن نقل المعتقلين، وتم تسجيل اعترافات ضباط آخرين ضده. بعدها أحيلت القضية للقضاء، وكانت العقوبة: "الحرمان من أي منصب قيادي، والطرد من الجيش فقط"!
فهل يعقل أن تكون هذه العقوبة مناسبة لمجرم أزهق أرواح العشرات، وسفك دماءهم، ودمر ممتلكات الناس وأعراضهم؟!
هذه الحال تتكرر في آلاف الجرائم التي ينفذها مجرمون قتلة، لا يضبطهم دين أو قانون!
من المؤلم حقاً أن يُظلم الإنسان في بلاد سُنت فيها أول قوانين العدل في الأرض!