القطيعة مع الماضي

قال أدونيس مؤخراً، في غير مناسبة، لكن من دون أن يضيف قولاً جديداً: إن "القطيعة مع الماضي هي أولى خطوات الخروج من الأزمة". وهو يعني أزمة ما نحن فيه من ظهور تنظيمات متطرفة، تستدعي الماضي وتبشّر به بحجة التبشير بالإسلام؛ وأزمتنا الحضارية المتجلية في تعطل نهضتنا، أو "حداثتنا".اضافة اعلان
أدونيس محق من دون شك؛ فنحن نستدعي الماضي كلما أردنا الحديث عن المستقبل، وليس مسار ثورات "الربيع العربي" عنّا ببعيد. لكن: من يقبل كلام أدونيس؟ ومن يستطيع أن يجد سبيلاً مناسباً لإقناع ملايين تربت على أن تحلم بالماضي نموذجاً للحاضر والمستقبل، بقبوله؟!
المدهش، ابتداءً، أن ثمة إجماعاً لدى المفكرين "الإسلاميين" والحركات السياسية "الإسلامية"، المتراوحة بين الاعتدال والتطرف، على اعتبار العودة إلى فهم السلف عودة إلى الإسلام الحقيقي، وهو ما يمثل شهادة في صالح منطقية القطيعة مع الماضي، فالأمر ليس متصلاً بتلك الحركات المتطرفة التي تبدو قادمة من الماضي، وتسمي نفسها "إسلامية"، بل بالثقافة المولدة لوجودها وقبولها في المجتمعات العربية.
لكن تلك الأفكار والحركات "الإسلامية"، وإلى جانب تنوع تكتيكها بين النهج الإصلاحي والنهج العنيف، تتنوع أيضاً في ما تريد تحقيقه من تفاصيل "النموذج" الماضوي الذي تستدعيه وتتمثله؛ أي ماهية الجزء الذي تخصصت فيه من ذلك النموذج، أو ما إذا كانت أخذت على عاتقها تطبيق النموذج كله: فمنها ما ركز على الجانب السياسي للنموذج، أي الخلافة، ومنها ما ركز على الجانب الاجتماعي، ومنها منا قال إنه يعمل لكل التفاصيل معاً.
هل ثمة حل، إذن، لا ينطلق من تخليص الوعي العربي من هذه الماضوية، باعتبار أن لا حاجة لها ولا لأي نموذج جاهز غيرها، ما دام الساعون إلى النهوض، في كل زمان، مطالبين بالإبداع والتفكير والابتكار، لأن تلك هي سُنّة الحياة وسر قيام الحضارات؟ ثم، هل ثمة سبيل للتخلص من هذه التصورات الماضوية عن النهوض والتقدم والتحديث، من دون تجفيف منابعها في مناهج التعليم، وفي خطب الجمعة، وفي الفضائيات، لصالح تقديم فتوحات فكرية جديدة؟
تجاوز الماضوية غير ممكن، ابتداءً، من دون خلق الأرضية الثقافية الضرورية لمساعدة العرب على الانتقال من حال التخلف إلى حال النهضة، لأن التغيير العملي والميداني لا يتحقق من دون تغيير معرفي وتطوير في المفاهيم. والمفاهيم السائدة حالياً عن الإسلام، والمتمثلة باعتباره نموذجاً ماضوياً يُراد إعادة إنتاجه في زماننا، هي ما يدفع للنظر إلى الوراء والانشغال به من جهة، والتركيز على فكرة "النموذج المثالي" الواجب تقليده، عوضاً عن التفكير بماهية الشكل الحضاري والمضمون الحضاري الواجب إيجادهما، أي ابتكارهما، ولو بمرجعية إسلامية، في هذا العصر الجديد، من جهة ثانية.
هكذا، فالتغيير العملي مرهون بقبول فكرة التغيير نفسها. لكن في أيدي دعاة الفكرة الماضوية كثير من "الأسلحة"، ليس أقلها تولي مناهج التعليم التقليدية ووسائل الإعلام الأكثر تقليدية، تعميم فكرة استدعاء الماضي وتكريس "نموذجيته" المفترضة، ناهيك عن الترهيب الفكري باسم الدين، أي باسم تلك الفكرة الماضوية التي تكرست في الأذهان، حتى ولو من دون مناهج تعليم أو أدوات إعلام تخاف مخالفة السائدة، بل تجدُّ في ممالأته!
ما علينا التفكير به، إذن، ليس ضرورة القطيعة مع الماضي من عدمها وحسب، وإنما -وبدرجة أكثر أهمية- السبيل إلى تلك القطيعة، وإلى جعلها ممكنة، بل إلى جعلها مقبولة ابتداءً عند مجتمعات تربت على حلم إعادة إنتاج الماضي، من أجل تحقيق المستقبل!