القوة والضعف في مواجهة التطرف

في مواجهة التطرف والكراهية، تجب ملاحظة أن هناك فروقا جوهرية بين الاعتدال والتطرف في بنيتهما وتشكلهما، ما يجعل الصراع بينهما مختلفا عن الصراع بين الحق والباطل أو الخير والشر، والحال أن المواجهة مع التطرف ليست كذلك أبدا. وحين يلجأ أهل الاعتدال والصواب (الاعتدال في اللغة هو الصواب) أو من يعتقدون أنهم كذلك، إلى العنف والتحريض والحشد الإعلامي والديني، فإنهم يقعون في أخطاء جسيمة؛ إذ يتحولون إلى متطرفين، ويصبح الصراع صراعا بين التطرفات، وتكون الخيارات بين تطرف وآخر، ويستدرجون أنفسهم إلى معركة خاسرة مع جماعات متماسكة فكريا ومعبأة بالعقائد والمشاعر والعناد، في حين أن الأنظمة السياسية ومؤسساتها لا تملك الفاعلية نفسها في الأدوات والدوافع وقوة الحجة... والأسوأ من ذلك أنه لا فرق في المصادر الفكرية والفقهية بين الطرفين، ولا يعدو الخلاف الفكري والديني بين الطرفين أن يكون سوى خلاف على الفهم والتأويل والتطبيق، وقد لا يكون خلافا!اضافة اعلان
مبتدأ الخلاف والصراع في سؤال واحد وإجابتين أو أكثر. وبذلك، فإن الحكمة مستمدة من عدم اليقين؛ ما يجعلها في بنيتها وجوهرها هشة وقابلة للتغير والمراجعة، وتقابلها لدى جماعات الاستبداد والتطرف إجابة حاضرة قوية متماسكة، ومدعومة بقوة الحجة والتنظيرات الفكرية والفلسفية والتحليلات السياسية. والسؤال ببساطة هو: ما الحق والصواب والجمال؟ في طريق الحكمة، يحور السؤال إلى: كيف نقترب من الصواب والجمال؟ بمعنى أنه غير موجود أو لا يكاد يكون موجوداً، وإنما ننشئه أكثر مما نكتشفه، أو هو صواب يظل نسبياً وغير يقيني. وفي السياسة والأيديولوجيا، فإن الصواب موجود ولا نحتاج سوى اكتشافه ومعرفته؛ ليس من مشكلة سوى نقص المعرفة! وفي ذلك أيضاً كثير من القدرة الحجاجية والديناميكية في البحث عن الأدلة والشواهد التي كثيراً ما تكون صحيحة أو متماسكة، ويشغل بها عقل مغامر من فلاسفة وعلماء وباحثين ومحللين وخبراء وإعلاميين يملكون فائضاً من المعلومات والأخبار والمعرفة.
ولشديد الأسف، فإن الحكمة بما هي عدم اليقين، تبدو ضعيفة مترددة؛ فالنزاهة تقوم على عدم اليقين، والسلوك الثاني يقيني أشد تماسكاً وصلابة وقوة، وأكثر جلداً وعناداً وثقة. لذلك، فإن الذين يجيبون أكثر تأثيراً وحضوراً من الذين يتساءلون.
الصواب لا يُعرف ولا يتشكل بقوة الحجج، إذ يستطيع كل شخص ملتزم مسبقاً بموقف أو فكرة أن يجد أدلة صحيحة ومقنعة لدعم موقفه أو فكرته ومعتقداته. لكن تقدير الخطأ أو الصواب والقبيح أو الحسن، مستقل عن الاعتقاد المسبق، والحكمة والتقدم نحو الصواب مرتبطان بحتمية نقص المعرفة. وبذلك، فإن الأفكار والمعتقدات يجب أن تظل مستقلة عن الهوية الفردية أو الجمعية؛ ليست جزءاً منّا أو تشكل انتماءنا مثل الحياة والأمكنة والمدن والمصالح. والجدل في حقيقته وجوهره ليس مجرداً أو مستقلاً حول الأفكار والمعتقدات؛ صوابها أو خطئها، الدفاع عنها أو مهاجمتها، الإيمان بها أو التخلي عنها، ولكنه في تحسين حياة الناس بما هي، أساساً، تقوم على الحرية والعدل والاحتياجات والأولويات الأساسية، ثم الارتقاء بها على نحو متواصل يجعلها متجددة ومتعاظمة.
وبما أننا لا نعرف أو لسنا متأكدين بالنسبة إلى ما هو الأفضل أو الأكثر صواباً، فلا نملك سوى تهذيب مشاعرنا ومواقفنا من الكراهية والاشمئزاز، أو الشعور بالتميز والأفضلية. وليس لدينا سوى ذلك طريقاً لتسوية الصراع أو إدارته أو محاولة تحسين الحياة أو الاقتراب من الصواب ومراجعة ما لدينا. ولأجل ذلك، فقد غلب على الصراعات والحروب فرص التسوية والمصالحات، اعتقاداً بأن أحداً أو جماعة لا يستغني عن الآخر أو قد يحتاج إليه، وقد يؤمن بمقولاته وأفكاره.