القيد ولا المذلة!!


جاكارتا –  كرّم المؤتمر العالمي السنوي لحرية الصحافة في جاكارتا إعلاميين دوليين دفعا ثمنا غاليا نظير إصرارهما على إعلاء دور السلطة الرابعة وكشف الفساد السياسي في سبيل المصلحة العامة.اضافة اعلان
الصحافي والكاتب المسرحي الإريتري-السويدي دويط إسحق المعتقل في إريتريا منذ أيلول (سبتمبر) 2001 بدون تهمة، والمحروم من التواصل مع عائلته لسنوات، كان أحد المكرمين في المؤتمر الذي عقد في 3 أيار (مايو) بإشراف منظمة اليونيسكو. اشتهر هذا الرائد بأسلوبه الناقد وأفقه الواسع في بلاد حافظت للعام الثامن على التوالي على أخفض ترتيب على سلم مؤشر الحريات الصحافية والسياسية، لمنظمة مراسلون بلا حدود. كما يصنّف رئيسها أساياس أفاويرقي ضمن الزعماء الذين يقتاتون على معاداة الحريّات الصحافية.
المكرّم الثاني المكسيكي أوسكار كانتو رئيس تحرير صحيفة نورته، التي أغلقها قبل شهرين، منهيا 28 عاما من الصمود في وجه صنوف تقييد الحريات وتصفية صحافيين. إذ لم يعد كانتو قادرا على حماية صحفييه من آلة القتل التي تفتك بإعلاميي بلاده دون عقاب. واستهدف هذا الغلق حفز الشعب على إدراك أهمية حرية الرأي والتعبير وقول كلمة الحق في وجه الفساد السياسي المدعوم بسلطة القانون، والمتغلغل في بلاده التي اختطفت مفاصلها مافيات تهريب المخدرات.
وكان كانتو المتحدث الرئيس في جلسة خاصة حول صحافة الاستقصاء على هامش المؤتمر الأممي: "فرص وتحديات في جنوب شرق آسيا وما بعدها" (كانتو هو صحفي كولومبي اغتيل على عتبة صحيفته الإسبيكتادور في بوغوتا العام 1986، وتمول الجائزة مؤسسة كانتو وسانومات هيلزينغن في فنلندا).
الصحافي الإريتري حصد جائزة اليونيسكو/ غيرمو كانتو العالمية لحرية الصحافة للعام 2017، بعد 16 سنة على اعتقاله في إطار حملة ضد وسائل الإعلام. ولم تتسرب أي معلومات عن مكان احتجاز اسحق أو وضعه النفسي والصحي منذ العام 2005.
اخترت الكتابة عن هذين المغامرين لإظهار الثمن المرتفع، الذي قد يضطر أن يدفعه من يسلك مهنة الصحافة والإعلام المحترف في مجتمعات عديدة يحكمها سلطويون يمارسون - دون خجل- طقوسا في خنق حرية التعبير – أقدس حقوق الإنسان، ويستهدفون الإعلام المحترف بالتحديد لكونه أهم أدوات حماية الديمقراطية ومساءلة من يجلس على كرسي الحكم عن وعوده التي يطلقها دون أن يحترمها أو يكن للرأي العام أي احترام.
إسحق، مثلا، نال هذا الوسام الدولي بناء على توصية لجنة تحكيم مستقلة مؤلفة من عدة إعلاميين تقديرا لشجاعته، قوة مقاومته والتزامه بحرية التعبير. مديرة اليونيسكو إيرينا بوكوفا، التي أيدت توصية اللجنة، تقول في ذلك: "يتطلب الدفاع عن الحريات الأساسية عزما وشجاعة، وكذلك مناصرين لا يعرف الخوف طريقا إليهم. هذا هو الإرث الذي تركه لنا غيرمو كاتنو، وهذه الرسالة التي نرسلها اليوم عبر هذا القرار لإبراز أعمال دويط إسحق".
من جهتها تقول تشيلا بينكو، رئيس لجنة تحكيم هذه الجائزة العريقة: "يعد دويط إسحق أحد الصحافيين الكثر الذين أثبتوا جرأتهم وحرصهم الدائم على تسليط الضوء على قضايا غامضة، من أجل توفير المعلومات اللازمة لمجتمعاتهم رغم كل العقبات". وتضيف: "كذلك قدم البعض حياتهم ثمنا لسعيهم وراء الحقيقة، في حين اعتقل آخرون ومنهم دويط. وكلي أمل في أن تكون هذه الجائزة فرصة ليطالب العالم بتحرير إسحق على الفور".
إسحق كان انتقل إلى السويد العام 1987، ثم أصبح لاحقا مواطنا فيها ليعيش بعد ذلك في منفى إجباري. وبعد استقلال إريتريا، عاد إلى مسقط رأسه والتم شمله مع أسرته قبل أن يشارك في تأسيس "ستيت" العام 1988،  أولى الصحف المستقلة في البلد.
ابنة إسحق تسلمت الجائزة بالإنابة عن والدها وألقت خطابا عاطفيا عن الصفات الحميدة، التي يتمتع بها والدها؛ "المعلم" الذي علمها كيف تقرأ حين كانت في الرابعة من عمرها. تقول الفتاة أنه كان دائم الترحال يكرس جل وقته لمساعدة الآخرين، لكنّ هدفه الرئيس كان تحقيق حلمه برؤية أريتريا جديدة وحرة تعيش بسلام. ساهم جزئيا في تحقيق هذا الهدف بميلاد صحيفة "ستيت". آخر مرة رأته فيها، نظر والدها إليها ورسم ابتسامة ملؤها الأمل والفخر بأن الرحلة بدأت بالفعل صوب نهضة أريتريا، نقلها من حال الحرب إلى السلم وبناء مداميك تجربة ديمقراطية خاصة بها.
اليوم، بعد مرور 15 سنة على تلك المشاهدة، تقول الفتاة إنها تتفهم رغبته وشغفه، وترى أن العالم غدا أكثر تعقيدا وعنفا وخال من العدل.
على أن حياته وتجربته شكّلتا مصدر "إلهام لي. وأنا أتفهم خياراته ومبادئه ورغباته بعالم أفضل. أفهم صراعه من أجل أن يعم السلم الاجتماعي، الاحترام المتبادل والاستقرار لأن ذلك مطلوب اليوم أكثر مما مضى".
لذلك قرّرت كريمته نذر حياتها لمقاومة من يحارب الحريات العامة. وهي مصمّمة على عدم الاستسلام أو الانهيار، مع تركيز جهدها على مساعدة أريتريا لكي تصبح مجتمعا يقبل التعددية أكثر تسامحا وأكثر عدالة.
المكسيكي كانتو يرسم صورة أكثر قتامة عن وضع الحريات الصحافية في بلاده. وتجلّى ذلك في كلمة القاها على هامش حلقة نقاشية عن فرص وتحديات صحافة الاستقصاء، التي تنبش الحقائق وتوثق تجاوزات السلطات وفق منهجية متطورة، بهدف تحقيق الحاكمية الراشدة ومساءلة المسؤولين عن الفجوة بين وعودهم وممارساتهم.
أغلق كانتو صحيفته التي كانت تصدر في خواريز، المحاذية للولايات المتحدة، بعد أن اغتال مسلح الصحافية ميروسلافا بريش التي كانت تتعاون مع مؤسسته ومع صحيفة لا جوراندا. تلقت بريش ثماني طلقات بينما كانت توصل طفليها إلى المدرسة، ووضع قرب جسدها ورقة كتب عليها: "لأنك كنت صاحبة فم كبير".
أغلق صحيفته لأنه "لا توجد ضمانات أو أي حماية أمنية لمن يمارس دور الصحافة النقدية". ويقول "خلال الـ27 عاما الماضية سبحنا ووقفنا ضد التيار.. وصلتنا تهديدات وطالتنا عقوبات من أشخاص ومن حكومات لأننا كشفنا ممارساتهم السيئة، وفسادهم ضد مصالح مدينتنا وحقوق سكانها". بالنسبة لكانتو، "كل شيء في الحياة له بداية ونهاية وسعر للدفع. لكن إذا كان الثمن هو الحياة، فأنا لم أعد قادرا على تقبل فكرة أن أدفع أنا أو أحد زملائي الثمن باهظا". عدّد الضغوط التي تعرض لها، ومنها حجب الإعلانات عن صحيفته؛ وهي لي ذراع تلجأ إليه الحكومات العرفية لتكميم الأفواه.
منظمة الدفاع عن الصحفيين العالمية رصدت مقتل 38 صحافيا في المكسيك منذ 1992 لأسباب تتعلق بعملهم، بينما قتل 50 آخرون لأسباب ما تزال غامضة.
إسحق وكانتو دفعا ثمن انخراطهما في هذه المهنة المقدسة. دفعا الثمن باهظا. بالطبع يجب أن لا يجازف أي رئيس تحرير أو صحافي بحياته في سبيل نبش قضية تهم الرأي العام. ولا بد من تقييم المخاطر. فحياة الإنسان أغلى من أي قضية يكشفها الصحافيون.
لكن ثمّة فرق بين أن تكون صحافيا انتحاريا أو انتهازيا يعمل على خدمة مصالحه الشخصية والعائلية عبر الجلوس في حضن السلطة الدافىء. الأفضل  أن نعمل بمهنية وعقلانية مع جرعة جسارة، ضمن حدود النقد المتاحة والمباحة دون تزوير للحقائق أو التطبيل والتزمير للسلطة.
نشكر  اسحق وكانتو على ما قدمّا لرفعة هذه المهنة.  نشكرهما لأنهما انحازا للحقيقة ودفعا الثمن؛ الحرية ومصدر الرزق. فمن قال إن مهنتنا سهلة؟ لكن لنتذكر في هذه المناسبة السنوية هذه النماذج المشرقة، فهناك العشرات بل المئات على شاكلة إسحق وكانتو يرفضون السكوت على انتهاكات حقوق الإنسان والرأي والتعبير، يؤمنون بأن لا خيار أمامهم إلا الوقوف ضد الظلم والتعسف لحماية حقوق الآخرين.
فبدون صون هذه الحقوق والخدمات الأساسية لن تنجح أي دولة في النمو، تحقيق الاستقرار أو توفير الحد الأدنى من الرفاه لمواطنيها.