الكاميرات في عمان..!

العلاقة جدلية دائماً بين حق الفرد في خصوصية الحيّز والشعور بالحرية، وبين مبررات الرقابة كوسيلة لضبط الانفلات السلوكي ورصد الانحرافات. وقد استدرج نشر كاميرات المراقبة في شوارع عمان، هذا الأسبوع، وجهات نظر عبرت عن نفسها بالمداخلات في المواقع الإلكترونية، وفي الأحاديث العامة.اضافة اعلان
في هذه المداخلات، بدا الكثيرون غير مرتاحين لهذا التدبير. على سبيل المثال، اعترض أحد المداخلين على تصوير المواطن داخل سيارته لضبط مخالفات التحدث بالخلوي وعدم ربط حزام الأمان، واعتبر ذلك انتهاكاً مفرطاً للخصوصية. وقال آخرون إن الهدف من الكاميرات هو جباية المال من المواطن، وليس العناية بسلامته. واقترح معلق أن تنفق الدولة ثمن الكاميرات على تحسين وسائل المواصلات العامة، حتى يقلل الناس من استخدام سياراتهم الخاصة، فتقل المخالفات. واقترح آخر أن وضع كاميرات تراقب المسؤولين وتضبط مخالفاتهم أجدى.. وهكذا.
في الوضع المثالي، سيكون انضباط الفرد، بفعل منظومة أخلاقية معززة بالتربية ونوعية الثقافة السائدة، أفضل من ضبطه بالتخويف والعقاب. وتخطر في البال فكرة "الحرية المسؤولة" كتصور مثالي يُعرِّف حُسن تصرف الشخص بما يملكه من الحرية -على أساس عدم إضراره بمصلحة الآخرين. لكنه سيصعب الدفاع عن الحرية بمعنى انتهاك القوانين بما يهدد سلامة الآخرين. وعندما تكون مخالفة قواعد السير ممارسة شائعة إلى حد التسبب بالرهاب من مجرد استخدام الطريق، فإن أي وسيلة لضبط المخالفين وتطبيق القانون عليهم تكون مبررة.
في زيارة لدولة شقيقة، أخبرني مضيفي أن الشارع السريع الذي نسير عليه مراقب بكاميرات موزعة على كل كيلومتر تقريباً، وبأن مستخدمي الطريق يعرفون ذلك بحيث لن يتجاوز السرعة إلا الراغب في دفع نقوده طوعاً للدولة. وبالمثل، سيكون الذي يقطع الإشارة حمراء، والذي يستخدم الهاتف أثناء القيادة، أو يعبث بالتقافز النزق بين المسارب، متطوعاً بدفع الغرامات للدولة. وستكون جهات إنفاذ القانون في حِلٍّ من تهمة التصيد إذا هي أعلنت عن وجود كاميرات المراقبة والرادارات. وباختصار، ستكون الفكرة ببساطة: "لا تخالف، ولن تدفع غرامات". ولا ضرر أساسياً في أن يلتزم الجميع بسلوكيات السير الرشيدة لمصلحة الجميع، وبحيث لا يُغرّم أحد.
في المقابل، من حق المواطن دائماً أن يطالب بما لَهُ هو الآخر. من حقه السير في شوارع صالحة ومستوفية لشروط السلامة. من حقه أن تكون هناك مسارب مخصصة للمركبات الكبيرة والحافلات، بحيث لا تضطر إلى التجاوز عليه وإغلاق طريقه. من حقه أن توفر الدولة وسائل مواصلات عامة منتظمة وعصرية، تعفيه من استخدام سيارته الخاصة. ومن حقه أيضاً أن تحميه الجهات المختصة من منتهكي القوانين الذين يهددون سلامته. لكن من الصعب الاعتراض على تغريم الذين يكسرون القواعد اختيارياً، بل حبذا لو تشمل العقوبات سحب رخصهم لفترات، كما يحدث في كل دول العالم، شريطة أن يكون الجميع متساوين أمام القانون.
من الاستعمالات الإيجابية للكاميرات، ما نعرفه من مساعدتها عند أجهزة الصرف الآلي في ضبط سارقي البطاقات، وإسهام كاميرات مؤسسات ومصانع في التعرف إلى قتلة ومجرمين. ويحدثنا أصدقاء في دول أخرى بأن من الصعب على أحد ارتكاب جرائم في مبانيهم السكنية لأن ممراتها مراقبة بالكاميرات. ويخبرنا آخرون بأن من الصعب ضياع طفل في مركز تسوق كبير لأنه سيسهل تعقبه بالكاميرات. كما يمكن أن يتحدث رجال أمن المكان مباشرة إلى متحرش بالفتيات أو معتد على خصوصية الآخرين. وفي واقع الأمر، سيكون للكاميرات فضل إذا أحسنوا استخدامها لضبط الجرائم وأعمال الإرهاب المحتملة، وقائياً وبَعدياً.
مع ذلك، لا يجب أن لا يشتت اضطرارنا إلى القبول بعين تراقبنا في الطرقات الانتباه عما سيقلل ضرورة الرقابة وأعباءها. هناك المطلب المشروع بإنشاء منظومة قيَمية وأخلاقية مخططة، بحيث يصبح الالتزام الإيجابي طبعاً شخصياً وثقافة أُمة. وهناك الحاجة إلى تطبيق مبدأ حكم القانون بحيث لا يكون أحد فوق القانون، ويجد كل فرد مصلحة له في إنفاذه. وهناك الحاجة إلى تخفيف أعباء الناس وتزويدهم بالفرصة، بحيث تتهافت مبررات النزق السلوكي والميل إلى النشوز وكسر القوانين. ليتنا نقيم ثقافة يكون فيها كل مواطن ومسؤول رقيباً أميناً على سلوكه وذاته، فستصبح كاميرات عمان أبراجاً للحمائم!