"الكبت الوظيفي": قصص لتعنيف نفسي مسكوت عنه.. وثقافة الصمت تتسيد

Untitled-1
Untitled-1

تغريد السعايدة

عمان- ذلك الشعور من "الكبت" الذي يعيشه الموظف، خصوصا حينما يتعرض للإيذاء النفسي من قبل المسؤول، يبقى راسخا في داخله، يشكل ندوبا يصعب نسيانها مع مرور الوقت، فضلا عن الخوف والعصبية والقلق وأمراض جسدية قد تجتاح العامل بسبب ضغوط لا تتوقف.

اضافة اعلان


وما إن انتشر خبر وفاة سيدة تعمل في أحد المصانع، وأنباء تعرضها للضغط والإهانة من قبل مسؤولها في العمل، في الوقت الذي صدر تقرير الطب الشرعي والذي "فند وجود رابط بين الضغط النفسي وحالة الوفاة"، إلا أن ذلك لم يمنع من تذكر محطات ممتلئة بالألم وعرض قصص على مواقع التواصل الاجتماعي، اشتملت على بوح أشخاص وتعرضهم لمواقف مماثلة، واضطرارهم للضغط على أوجاعهم لأجل الحاجة والسعي وراء لقمة العيش.


القصة التي حدثت مؤخرا، كغيرها من القصص "الحقوقية" اليومية، لم تمر مروراً عابراً، حتى تم إطلاق أكثر "هاشتاج" يندد بالحادثة، ويطالب بوجود مراقبة لوضع الأيدي العاملة والاطمئنان على وضعهم الجسدي والنفسي خلال العمل، في دلالة على أن تلك الزوايا في المصانع والمعامل وأماكن العمل، تخبئ خلف زجاجها ومكاتبها الكثير من الآلام والأصوات المكبوتة في ظل ظروف اقتصادية تُكبل أيادي المحتاجين وتخضعهم لشروط صاحب العمل.


الخبر ذاته، وجد تفاعلا كبيرا لرواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين طالبوا الجهات المسؤولة باتخاذ أقصى درجات العقوبة بحق المخالفين لشروط العمل التي تحمي الموظف والعامل، وتؤمن له ظروف عمل تضمن حريته وكرامته.


اختصاصي الصحة والطب النفسي الدكتور أحمد عيد الشخانبة، يؤكد وجود علاقة طردية بين الضغوط النفسية وتأثيرها على الصحة، إذ إن تعريف هذه الضغوط يشمل تغيرات وأحداثا ومثيرات يتعرض لها الإنسان في حياته، وتُشكل تحدياً في قدرته على التكيف معها، بمعنى أنها تغيرات تشكل تحدياً.


وليس من الضرورة أن تكون تلك الضغوط سلبية، فمنها جانب إيجابي مثل الترقية أو الحصول على منصب جديد، فهي تشكل تحديات تؤثر على تفكير الشخص ومخاطبة نفسه إن كان سينجح في التكييف مع هذا التغيير أو لا وكيف يثبت نفسه فيه. أما السلبية منها فتمثل في المرض، الوفاة، السجن، الأزمات المالية، الإهانة والاعتداء أو الابتزاز.


ويؤكد الشخانبة أن هذه الضغوط من الطبيعي أن تؤثر على الإنسان صحياً وفسيولوجياً، إذ إن الإنسان المتعرض للضغط يصبح لديه تغيرات، وفي حالة استمرارها لفترة طويلة قد تسبب أمراضا ومشاكل صحية واضحة وقد تؤدي إلى الوفاة أحياناً.


لذلك، من الأهمية بمكان أن يتم التعامل مع هذه الضغوط بسرعة وتجاوزها وحلها، فهذه الضغوط يقع تأثيرها على القلب، وضغط الدم، ويزيد الجسم من إفراز هرمونات معينة، تكون ضارة وخاصة على المدى البعيد، كما في هرومون الأندرينالين.


تلك التغيرات، وفق الشخانبة، يستطيع الجسم التعامل معها في حال استمرارها لفترة قصيرة، ولكن مع مرور الوقت في الحال ذاته، فإن الجسم سيدخل في حالة مرضية، كما في الشعور بالتعب المزمن، واضطرابات النوم، الاكتئاب، قرحة المعدة، أو القولون العصبي، كما تضعف المناعة وتقل أثناء التعرض للضغوط النفسية، وبالتالي يزداد احتمال إصابة الإنسان بالأمراض الأخرى المعدية التي تسببها الفيروسات والميكروبات، أو الجلطة القلبية أو الدماغية، لذا على الإنسان إدارة الضغوط النفسية والتعامل معها، وعدم السماح باستمرارها فترة طويلة، وفي حال عدم قدرته على ذلك، من الأهمية بمكان مراجعة طبيب نفسي أو معالج مختص.

أما اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي، فيتحدث عن العمال أو الموظفين الذين يتعرضون لمواقف سلبية من مديريهم أو المسؤولين عنهم، لكن لا يستطيعون المواجهة بسبب الخوف من ردات الفعل، أو خوفاً من التضييق عليهم، ويلجأون للكبت، الذي يؤدي الى أمراض واضطرابات، مثل القلق والخوف والعصبية وارتفاع ضغط الدم وأمراض في القلب، التي يتفق عليها أطباء الاختصاص، وهذه كلها أمراض خطيرة، وأفضل علاج لها، الابتعاد عن الكبت والانصياع لتلك الضغوط، والتفاهم بطيبة ومودة بين المدير والموظف وأن تكون العلاقة الاجتماعية في أجواء العمل "جاذبة وودية"، حتى يظهر ذلك على الإنتاجية وديمومة العمل.


ويشير خزاعي إلى أن قياس الرضا في بيئة العمل يتمثل في مدى ارتياح العامل، وهناك بالتأكيد أسباب كثيرة تؤثر على مقياس الرضا لديهم؛ حيث يظهر ذلك من خلال طبيعة العلاقات الاجتماعية فيما بينهم، وهذا مؤشر كذلك على نمط الإدارة بين المسؤول والعامل أو الموظف، لذا قد نرى أحياناً جانبا كبيرا من القسوة والمراقبة والمحاسبة وعدم الأخذ بعين الاعتبار البعد الإنساني مثلا عند التأخر عن العمل أو إنجازه.


لذلك، نرى أن الظروف الصعبة أو المجحفة بحق العمال والصرامة في تطبيق القانون أو التحييز لموظفين على حساب موظفين وغياب العدالة في العمل، هو شكل من أشكال التنمر، كما يصفها خزاعي، كذلك عند اللجوء للعنف اللفظي أو تكليف العمال أو الموظفين في مهام ليست مهامهم أو واجباتهم. لذا، يلجأ الكثيرون نحو "ثقافة الصمت" والتحمل خوفا من فقدان الوظيفة، ويصبح الكبت هو وسمهم، إلى أن يصابوا من دون أن يشعروا بـ "أمراض نفسية" مع فقدان القدرة على التحمل.


لذلك، يؤكد الشخانبة، أن الوضع النفسي للإنسان يفرض عليه عدم تحمل تلك الضغوط من أجل "وظيفة ما"، وفي حال كان هناك ضغوط عمل لم يستطع الإنسان حلها أو التعامل معها، من الضروري تغيير العمل أو البحث عن جديد، وهنا تأتي مهارات حل المشكلات، والبحث عن حلول، وفي حال فشل الإنسان في ذلك، من الضروري تغيير مكان العمل، لأن الاستمرار في عمل يلحق بالإنسان الضغط الشديد، يجعله فريسة سهلة للمشاكل الصحية التي ستمنعه من تأديه عمله بشكل مناسب، وقد يعرضه لفقدان عمله، لذلك قد يكون تغيير العمل هو الحل، أو اكتساب مهارات جديدة وخبرات.


أستاذ الفقه والدراسات الإسلامية الدكتور منذر زيتون، يؤكد أن الديانات السماوية، كما في الإسلام، جميعها دعت إلى احترام الجميع ومراعاة الحالة النفسية والجسدية وقدرة العامل على العمل.


والشرع، كما يبين زيتون، ألزم صاحب العمل أن يسند العامل ويقف معه ويعينه، لا أن يتآمر عليه أو يحرجه ويهينه، لا يجوز بتاتاً التعدي عليه، الله تعالى حرم الظلم، وهذه التصرفات تأتي ضمن نظاق الظلم، وإذا كان العامل في تعب أو إرهاق أو مرض يجب أن لا نكلفه فوق طاقته، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً فوق طاقتها، فكيف يطيق الإنسان أن يكلف أخاه الإنسان فوق قدرته، فهذا فيه تجاوز للإنسانية والحقوق، ولا ينبغي لإنسان لديه أحاسيس ومشاعر وأخلاق أن يتطاول على غيره.


وسواء أكان هذا الحادث الذي مرّ قبل أيام على وفاة السيدة العاملة، بسبب الضغط النفسي، أو ما ترتب على ظهور هذا الخبر من تعليقات وأحداث تُظهر بالفعل وجود ظلم وكبت وإساءة في أي مكان عمل، فإن هذا الأمر محزن للغاية، ويثير الغضب، على حد تعبير زيتون، لأن الإنسان ينبغي أن لا يتجاوز على حقوق وكرامة إنسان آخر.


ويؤكد خزاعي أن مدرسة العلاقات الإنسانية الآن في ظل جائحة كورونا والوضع الاقتصادي وتأثر الأسر وتدني الدخل وزيادة عدد العاطلين عن العمل، تحتاج لوقوف الأفراد بجانب بعضهم بعضا، كذلك من قبل المديرين والمسؤولين الذين يفترض عليهم احترام وتقدير العامل، وعدم المبالغة والتعسف أو تضييق الخناق عليه ودفعه للاستقالة وترك العمل.

ودعا خزاعي كل مدير ومسؤول أن يكون ملما في نظرية العلاقات الإنسانية وأن يتسلح دائما بالحكمة والموعظة الحسنة والإرشاد والتوجيه أفضل من تطبيق القانون، وعلى كل من يتبوأ إدارة المسؤولية الأخذ بعين الاعتبار الجانب النفسي والاجتماعي للموظفين والعمال وتقديرهم واحترامهم وتشجعيهم وتحفيزهم على العمل الذي يقومون به وعدم التركيز فقط على الإنتاجية وعلى تطبيق الأنظمة والقوانين بصرامة وشدة على الموظفين والعمال، مؤكداً ضرورة عدم استخدام جائحة كورونا والأضرار الناجمة عنها مبرراً للتضييق على العاملين من أجل إنهاء عملهم، أو دفعهم للإقالة، وهذا سلوك خطير جدا.

إقرأ المزيد :