"الكتاب المقدس والسيف: إنجلترا وفلسطين من العصر البرونزي إلى بلفور"

Untitled-1
Untitled-1

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

جيم مايلز – (ذا بالستاين كرونيكل) 14/3/2021
تلقي هذه القراءة ضوءاً على كتاب "الكتاب المقدس والسيف: إنجلترا وفلسطين من العصر البرونزي إلى بلفور". تأليف: باربرا توكمان. (مطبعة جامعة نيويورك، 1956؛ راندوم هاوس، 2014)

  • * *اضافة اعلان
    يتأسس جزء من التاريخ من قراءة الوثائق التاريخية، وهو ما ينبغي في ضوئه قراءة كتاب "الكتاب المقدس والسيف"، للكاتبة باربرا توكمان. ويذهب الكتاب وراء في الزمن إلى أبعد من الأحداث الجارية حالياً، لكن مضمونه يظل متصلاً بحياة بعضهم، ولو أنه مكتوب عن سلسلة من الحقب السابقة. وليس هذا الكتاب أفضل عمل لتوكمان؛ ففي حين أنه يقدم مادة ممتعة للقراءة ومقاربة موضوعية عامة جيدة لموضوعه، فإنه يظل ينطوي على بعض المشاكل.
    المشاكل
    يشير العنوان إلى أن الموضوع يتعلق بإنجلترا وفلسطين، لكنَّ الأصح هو أنه يتعلق بمنظور إنجلترا تجاه فلسطين ولا يعرض سوى القليل جدًا عن فلسطين نفسها. وفيه، يتم تصوير الشرق الأوسط، بشكل عام، من وجهة النظر الغربية "الاستشراقية'' التي تحيله إلى مكان بدائي ومتخلف إلى حد ما، والذي سُمح بإهماله، حتى نكون منصفين، تحت حكم الإمبراطورية العثمانية خلال العقود الأخيرة من سيطرتها وتحت ضغط من مختلف الإمبراطوريات الأوروبية الساعية إلى الامتيازات والتحالفات.
    بينما لا يتم وصفها بشكل مباشر في مادة الكتاب، تحمل فلسطين نفسُها السرد مباشرة من خلال المصادر التي يُشار إليها بأنها تمثل النظرة الغربية النمطية التي تصفها بأنها "أرض فارغة"، وأرض بلا شعب، وصحراء، ليس فيها سوى عدد قليل من البدو الذين يتجولون في الأنحاء. وعلاوة على ذلك، يجري اعتناق التراث التوراتي باستمرار على أنه حقيقة مدعومة بـ"العلم"، على الرغم من عدم تقديم الأدلة العلمية التي يجري الحديث عنها.
    وتدرك الكاتبة نفسها تحيزها، لكنها لا تتغلب عليه. ولأن لها خلفية يهودية، فإنها تكتب في مقدمة الطبعة اللاحقة في العام 1984: "عندما يتعلق الأمر بحظوظ اليهود وإسرائيل، فإنني لست منفصلة، وإنما منخرطة عاطفياً". وعندما حاول ناشرها دفعها إلى كتابة التاريخ حتى نكبة العام 1948 (لم تكن هذه بالتأكيد هي الكلمة التي ستستخدمها) اعترضت على أساس أن "الموقف الذي تدافع عنه… ينزع الصلاحية عن عمل المؤرخ"، وأن كتابتها لهذا الجزء من التاريخ "من المستحيل تماماً إنجازها من دون الغضب".
    ثم تواصل في المقدمة ما بدا في ذلك الحين وكأنه افتراضات مقبولة على الأرجح. تكتب توكمان: "لقد منحَت السيادة في إسرائيل الكرامة والثقة واحترام الذات لليهود أينما كانوا". وهي ترى أن اليهود لم يعودوا "موضوعاً للاضطهاد… لأن اليهود لن يعودوا يشعرون بأنهم ضحايا. الضعفاء والعاجزون هم الذين يستدعون الاضطهاد لأنفسهم، لكنَّ… إسرائيل اكتسبت الشجاعة والثقة اللتين يجلبهما الدفاع عن النفس".
    ينطوي هذا على بعض الحقيقة، لكن الغالبية منه -لم يعودوا ضحية، ولم يعودوا ضعفاء وعاجزين- ليست كذلك. هاتان الفكرتان تشكلان جزءًا كبيرًا من الرواية الإسرائيلية المستمرة التي تحاول عقلنة السبب في تصرف إسرائيل بالطريقة التي تتصرف بها. ويعلن اليهود إلى الأبد أنهم ضحية، كما تؤكد المحرقة النازية وجميع نصب المحرقة والجمعيات القائمة التي تذكر بها. ويعلن السياسيون باستمرار عن ضعفهم وعجزهم وكونهم مكشوفين أمام الهجوم، من أجل السيطرة على مواطنيهم وكذلك أبناء جلدتهم المعرضين للخطر في أوروبا والولايات المتحدة.
    نعم، لقد اكتسبوا الشجاعة والثقة، مدعومين بدولتهم الأمنية والعسكرية الهائلة، وترسانتهم من الأسلحة النووية، والدعم والاستغلال المقبلين من الولايات المتحدة. ولسوء الحظ، فإن الكثير من تلك "الشجاعة والثقة" ينطوي على إخضاع شعب آخر للحكم العسكري القاسي في دولة فصل عنصري.
    في الكتاب، تُعد المسيحية بالتأكيد، على الرغم من عدم التقليل من شأنها بشكل مباشر، بنية أخلاقية أدنى، مع لمسة من الوعظ الذي تعرضه الكاتبة عندما تكتب: "تمثل "الوصايا العشر" مدونة يمكن للناس اتباعها… وقد ظلت "العظة على الجبل"، حتى الآن، رمزاً بعيداً عن متناول المجتمع".
    العصور
    في كتاب يغطي عصوراً عديدة مختلفة، نحو 2.500 سنة بشكل عام، تتطلب الكتابة تركيزًا وثيقاً. ومع ذلك، تُبقي توكمان تركيزاً قوياً على الطريقة التي نظر بها الجمهور البريطاني والسياسيون والقادة الدينيون البريطانيون إلى فلسطين.
    ينطوي الفصل الأول من الكتاب، المعنون "الأصول: حكاية متفق عليها"، على نوع من المبالغة، حيث يعتمد على الروايات المختلقة والخرافات أكثر مما يعتمد على أعمال تاريخية أو علمية. وتبدأ الكاتبة بقول إن البريطانيين ما قبل السلتيين نشأوا "من الجزء نفسه من العالم" -وهو صحيح لأن جميع الناس في أوروبا -بصرف النظر عن الخطوط الجينية التي ربما تكون قد انتقلت عائدة عبر أوراسيا خلال فترة جحافل المغول- اضطرت إلى المرور عبر هذا العنق الضيق من الأرض للوصول إلى بلاد الشام ثم إلى أوروبا. وبعد ذلك تذهب إلى القول: "عندما تكون الحقيقة –الحقيقة التي يمكن التحقق منها- غير قابلة للحصول عليها، عندئذ يجب أن يحل محلها التراث". وبعد الاعتراف بذلك، يصبح الفصل الأول في أغلبه معلومات بديلة، ويبدو أنه محاولة تذهب أكثر من اللازم نحو ربط التراث البريطاني مباشرة بالتراث الإسرائيلي.
    بعد ذلك، تعمل الكاتبة على تاريخ أكثر واقعية من خلال وثائق تاريخية قديمة أخرى، لكنها لا تستند إلى بحث أصلي قائم على المزيد من استكشاف الوثائق الحالية (مع الأخذ في الاعتبار أن هذا العمل كتب في العام 1955). وتنطوي الفصول التالية حقاً على نهج موضوعي أقوى وقائم أكثر على البيانات لعرض ما كانت عليه وجهات النظر البريطانية بشأن فلسطين.
    الثيمات
    بشكل عام، هناك ثيمتان للكتاب، كما هو موضح في العنوان: السيف، باعتباره المصالح العسكرية والاستراتيجية للسياسيين ورجال الأعمال؛ والكتاب المقدس، باعتباره مصدر المبررات والمواقف الأخلاقية تجاه فلسطين (وكملحوظة جانبية هنا، تستخدم توكمان باستمرار الإشارة إلى فلسطين بهذا الاسم، نافية بشكل غير مباشر الذريعة الإسرائيلية القائلة إن فلسطين لا توجد الآن، ولم تكن موجودة قط). وكما هو معتاد في المجتمع الغربي، فإن الجيش يدعم هذه الثيمة الأخيرة في جهوده المعتقِدة بالصلاح الذاتي للسيطرة على الناس الآخرين والأماكن الأخرى.
    بوضع كل الانتقادات المذكورة جانباً، تمضي توكمان فعلياً عبر العصور المختلفة من التاريخ البريطاني، متعقبة صعود المشاعر والأفعال وهبوطها مرة بعد الأخرى تجاه فلسطين والشرق الأوسط. وهي تنظر بشكل نقدي إلى الحروب الصليبية، وتنتقل إلى أصولية الصهاينة المسيحيين البيوريتانيين، تليها حقبة يميزها بعض الاهتمام العابر فقط عندما قامت بريطانيا بفرز هياكل سلطتها الدينية الخاصة، وتنتهي بظهور صهيونية مسيحية متجددة متوافقة مع جهود هرتزل ووايزمان.
    وهناك ثيمات فرعية في الكتاب أيضاً. أرادت بريطانيا فلسطين من أجل تعزيز سيطرتها على طرق تجارة الهند الشرقية، ولتعطيل المصالح الروسية والفرنسية والألمانية – في تلميحات إلى اقتراب الحرب العالمية الأولى. كما طورت بريطانيا التزامًا "أخلاقيًا" بتصحيح أخطاء المسيحية التي فُرضت على اليهود على مر القرون، وهو موقف تبناه عن طيب خاطر أولئك المهتمون بالأغراض الاستراتيجية. وإلى جانب الغرض الأخلاقي، ثمة الاعتقاد الإمبريالي الشامل بـ"منافع التمدين" و"القدَر الواضح"، وهي فضائل تستدعيها جميع الإمبراطوريات للحسم الجدالات المحلية –والتي ما تزال حية وبصحة جيدة في الإمبراطورية الأنجلو-أميركية الحالية على مستوى العالم وما تزال حاضرة في الشرق الأوسط.
    وثمة جزء آخر من البحث عن وطن لليهود، كان الرغبة في إبقاء يهود أوروبا الشرقية، الذين يعدون غير مرغوب فيهم، خارج بريطانيا. وقد أصبح هذا في النهاية محور تركيز هرتزل ووايسمان لأن اليهود المندمجين، الذين أصبحوا الآن أقوياء جدًا في الحياة السياسية والاجتماعية البريطانية، كانوا غير مستعدين تمامًا لتقديم المال أو الدعم المعنوي لمسعى تجديد الوطن اليهودي.
    كانت الإمبراطورية العثمانية، التي اعتُبرت منذ وقت طويل في ذلك الحين في طريقها إلى الخروج، أحد الاعتبارات التي تدخلت في تأسيس وجود بريطاني في فلسطين وتحقيق رغبة بريطانيا المعلنة في توطين اليهود في المنطقة. فعندما لم تنجح بريطانيا في الحصول على تنازلات من القادة العثمانيين لنقل السكان اليهود إلى فلسطين، تطورت لديها نية أكثر عسكرية. وبمجرد زوال الإمبراطورية العثمانية، تم توزيع قطعها بين فرنسا وبريطانيا بدرجات متفاوتة من الفشل.
    الحاشية
    تشير الحاشية الختامية التي وضعتها الكاتبة، حيث منعها غضبها من الذهاب أبعد، إلى أن الغضب نابع من الضعف البريطاني والعداء الذي صنعه البريطانيون في المنطقة.
    كانت توكمان على قيد الحياة خلال حرب العام 1967، التي اعتُبرت في ذلك الوقت هجومًا تشنه على إسرائيل القوات العربية المشتركة. وكان ما كشفت عنه الوثائق اللاحقة هو أن تلك الحرب كانت وقائية ضد مصر، ثم بعد أن نجحت بشكل جيد هناك، انتقلت إلى سورية. وتوفيت توكمان بعد فترة وجيزة من الانتفاضة الأولى (1987) في كانون الأول (ديسمبر) 1989. ومنذ ذلك الحين، تم كشف الكثير عن الأساليب اليهودية في التطهير العرقي، وجرائم الحرب، وإقامة المستوطنات غير الشرعية على الأراضي الفلسطينية (كلها فلسطينية) والسيطرة على السكان الأصليين وإخضاعهم للحكم العسكري والعديد من القوانين المحلية التمييزية، وإنشاء دولة فصل عنصري.
    وأتساءل إلى أين كان "غضبها" ليتوجه الآن، لو أن جدولها الزمني الشخصي سمح لها بمعرفة كيف تعمل إسرائيل حاليًا في المنطقة؟ سيكون أمامها خياران: الغضب من الطريقة التي تتم بها مضايقة إسرائيل حالياً بتوجه التهم إليها بارتكاب جرائم إنسانية وجرائم حرب ضد الفلسطينيين؛ أو الغضب من الطريقة التي تعامل بها إسرائيل الفلسطينيين في ظل قوانين عسكرية ومحلية شديدة القسوة؟ أين ستقف من وصف "الفصل العنصري" الذي أطلقته منظمة "بتسيلم" على نظام إسرائيل؛ من تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" لمعاداة السامية، وطبيعة "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات" ضد إسرائيل؟
    من الواضح أنها لا توجد إجابات عن هذه الأسئلة، حيث يمكن أن يغيّر الناس وجهات نظهرهم مع المزيد من الوقت والمزيد من المعلومات.
    بعد تقديم وجهة نظر سلبية إلى حد ما عن "الكتاب المقدس والسيف -إنجلترا وفلسطين من العصر البرونزي إلى بلفور"، أود الإشارة إلى أنه يظل كتاباً جديراً بالقراءة، جزئيًا بسبب المنظور الذي يقدمه بشأن القدر الذي فكرت به القوى الغربية في إسرائيل بعد سبع سنوات فقط من حربها وإعلان إنشائها؛ وفي جزء آخر لأنه يحدد الخطوط العريضة للثيمات الرئيسية التي تنطوي عليها وجهات النظر البريطانية تجاه فلسطين، والتي يستحق القليل جدًا منها الاحترام من وجهة منظور السكان الأصليين.
    تبقى كتابات توكمان الأخرى -وقد قرأتها جميعها الآن- أقوى بكثير وتستحق القراءة هي أيضاً. وهي تمتاز بأسلوبها الذي يجعل التاريخ قريب المتناول، ويحرره من جفاف الجداول الزمنية والتواريخ، بطريقة تجعله قصة أكثر من كونه تاريخًا. ويتوقف "الكتاب المقدس والسيف" عند رسالة بلفور، لكن الحقبة برمتها يتم تقديمها بشكل أفضل في عمليها الآخرَين عن الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى: " برج الكبرياء: بورتريه للعالم قبل الحرب من 1890 حتى 1914"، الصادر عن (راندوم هاوس في العام 1996/ والذي صدر أصلاً في العام 1966)؛ و"بنادق آب"، الصادر عن (مطبعة بريسيديو في العام 2004/ والذي صدر أصلاً في العام 1962).
    *Jim Miles: معلم كندي ومساهم منتظم، كاتب عمود لمقالات الرأي ومراجعات الكتب في "ذا بالستاين كرونيكل". ينبع اهتمامه بهذا الموضوع في الأصل من منظور بيئي، والذي يشمل العسكرة والقهر الاقتصادي للمجتمع العالمي وتحويله إلى سلعة من خلال حوكمة الشركات والحكومة الأميركية.
    *نشرت هذه المراجعة تحت عنوان: Bible and Sword: England and Palestine from the Bronze Age to Balfour – Book Review
    هامش المترجم:
    باربرا فيرتهايم توكمان Barbara Wertheim Tuchman، (من 30 كانون الثاني (يناير) 1912 إلى 6 شباط (فبراير) 1989) مؤرخة ومؤلفة أميركية. اشتهرت على نطاق واسع لأول مرة بعملها "بنادق أغسطس" The Guns of August (الذي عرف فيما بعد باسم "آب 1914)، وهو من الكتب الأكثر مبيعًا والذي يتحدث عن تاريخ الفترة التمهيدية والشهر الأول من الحرب العالمية الأولى. وقد فازت عنه بجائزة بوليتزر للأعمال الواقعية في العام 1963. ركزت توكمان على كتابة التاريخ الشعبي، وتناولت من خلال أسلوبها الواضح والدرامي موضوعات متنوعة، مثل القرن الرابع عشر والحرب العالمية الأولى، وحققت كتبها أرقام مبيعات لكتبها بالملايين.