اللجنة الوطنية لتطوير الموارد البشرية

قرار جلالة الملك بتأليف لجنة وطنية لتنمية الموارد البشرية، إن أحسنت السلطة التنفيذية تطبيقه، قد يكون من أهم الخطوات الواجب اتخاذها للتأسيس لمجتمع تعددي متسامح، وبناء جيل جديد لديه المهارات اللازمة ليس فقط للمنافسة في سوق العمل، بل وأيضاً للإبداع والابتكار والتجديد.اضافة اعلان
وحتى يتم ذلك، على الحكومة أن لا تنظر للجنة من زاوية فنية أو روتينية. وعليها أيضاً الاستفادة من الأخطاء الماضية وتجنبها، لأن الناس -وبصراحة- لم يعودوا يأخذون هكذا لجان على محمل الجد؛ ليس لعدم نجاعة توصياتها، ولكن لأن الماضي أظهر بوضوح أن هناك فجوة واسعة بين توصيات مثل هذه اللجان وما يجري تنفيذه على أرض الواقع.
ليست هناك أولوية للدولة، في نظري، تعلو على إصلاح نظامنا التعليمي، حتى وإن لم تظهر النتائج إلا بعد جيل أو جيلين. إذ وحده النظام التربوي الناجع من يستطيع حل مشاكل البطالة وغياب التعددية، وقلة الإبداع الذي يؤدي إلى اقتصاد المعرفة. وهذا لن يتأتى إن كانت نظرة اللجنة روتينية، تتحدث عن قضايا تقليدية، من مثل مواءمة مخرجات التعليم بسوق العمل، وكأن أحدا يستطيع التنبؤ بالتحولات السريعة على هذه السوق في عصر التكنولوجيا والعولمة.
المطلوب نظام تعليمي يدرب النشء على مهارات تتيح له المنافسة في السوق، بغض النظر عن تغيرها؛ نظام يبتعد عن التلقين وتعليم الانصياع الأعمى لحقائق تُدرّس على أنها مطلقة، وطمس الحوار والنقاش لا بل والاختلاف؛ نظام يعتمد التفكير النقدي، وإدراك أن الحقيقة نسبية في أغلب الأحيان.
كما على هذا النظام غرس الاحترام الحقيقي للتنوع الديني، ولاحترام وجهات النظر الأخرى، كما لمساواة المرأة مع الرجل، وللتفكير المستقل الضروري للإبداع. فوحدة التفكير أساس الخمول، كما أن تعددية الرأي مفتاح التجديد والإبداع. وإن كانت الأنظمة التربوية الماضية تهدف إلى خلق أجيال مسالمة منصاعة، فإن الثورات العربية أثبتت العكس تماماً، حين أخفقت هذه الأنظمة في تسليح النشء بما يحتاج من مهارات، ما قاده للإحباط والتطرف والثورات.
أيضاً يجب أن تقال الأمور بصراحة. فهذه ليست أول لجنة وطنية لتطوير الموارد البشرية، كما أنها ليست المرة الأولى التي يطلب فيها جلالة الملك أن تكون توصياتها ملزمة للحكومات المتعاقبة. وكان جلالته قد طلب من الحكومة، في الرسالة الملكية لتشكيل الأجندة الوطنية "وضع أجندة شاملة تحتوي على الأهداف الوطنية التي تجسد رؤية الجميع وتحدد البرامج الاستراتيجية والسياسات الوطنية التي سيشكل تحقيقها التزاما على الحكومات المتعاقبة". إلا أن المعارضة الشرسة من القوى المعارضة للتغيير، صورت الأمر وكأن التزام الحكومات المتعاقبة غير دستوري، مع أن جلالة الملك هو رئيس السلطة التنفيذية، ويحق له دستوريا أن يطلب من الحكومات المتعاقبة الالتزام بسياسة معينة في كتب التكليف السامي. ومن الضرورة بمكان الانتباه لهذه النقطة، حتى لا تنتهي توصيات هذه اللجنة بما انتهت إليه توصيات ما سبقتها من لجان؛ فتظهر القوى المعادية للتغيير داخل الدولة التزاما لفظيا بتوصيات اللجنة، بينما هي تعمل من وراء الكواليس لإجهاضها. وقد رأينا هذا الفيلم مرارا عديدة!
مرة أخرى، هذه ليست "نوستالجيا"، ولا محاولة للعودة إلى الوراء. ولكن نجاح المسعى المستقبلي لا يستطيع إغفال دروس الماضي. وبعد هذا وذاك، فإن هذا المسعى يحتاج إلى موارد ملائمة للجنة وللجهد، ولتكليف ملكي متكرر للحكومات، كما لإرادة صلبة للتغيير. هذا مستقبل أبنائنا وبناتنا، ومستقبل بلدنا؛ فدعونا لا نغرق في وحل الواقع مرة أخرى، فيعمينا عن التأسيس للمستقبل.