اللحظة التاريخية القائمة وكيف نلتقطها

ثمة موجة للإصلاح حلت على العالم ولا مجال لمنعها أو صدها إلا بمقدار منع تسونامي الذي اجتاح اليابان وإندونيسيا. ولكن السؤال هو كيف نتعامل مع هذه الموجة ونوظفها؟ وكيف لا نفوّتها أو نهدرها؟ هناك رغبة جارفة بمعرفة ما نريد وما لا نريد، وما نحتاجه وما لا نحتاج إليه، وكيف نعمل ونتحرك. وبتقديري فإن حراك الشارع ضروري ومفيد، ولكن ليس المطلوب فكرة واحدة جامعة ومتفقا عليها، ولا اعتصاما شاملا وكاسحا، لأن المطالب المحددة لدينا هي ليست جامعة ولا تحتاج إلى اعتصام شعبي كبير، ولكن لا بأس أن يكون لدينا حراك في الشارع يعبر عن رغبة في الإصلاح ومكافحة الفساد وعن مطالب سياسية واجتماعية عامة، وطالما أن ثمة عددا من المواطنين مستعدون وراغبون في التعبير عن مطلبهم هذا من خلال الشارع فذلك أمر جيد، وقد بدأ الشباب يبدعون نماذج جديدة ومؤثرة في التعبير مثل مجموعة "الحقيقة السوداء" التي تعبر عن أفكار ومطالب إصلاحية بطريقة ساخرة، بل ولا بأس أن يكون ثمة اختلافات وتناقضات في التفكير والمطالب. اضافة اعلان
وفي حالتنا هذه، فإننا نحتاج أن نميز بين ثقافة التذمر الكاسحة وبين الاحتجاج الحقيقي على الفساد، ويظهر تشخيص الظلم غالبا كنقطة البداية للنقاش النقدي، لكن إذا كانت هذه نقطة بداية معقولة فلم لا تكون نقطة نهاية جيدة كذلك؟ ما الداعي لوجود نظرية في العدالة؟ ألا يكفي إحساسنا بالعدل والظلم؟ ببساطة لم يكن فهم العالم قط مسألة تسجيل لانطباعاتنا المباشرة، الفهم ينطوي حتما على التفكير، وعلينا أن نقرأ ما نشعر به وما يبدو أننا نراه، ونسأل إلام تشير تلك المدركات؟ وكيف يمكن أن نأخذها في الاعتبار من دون أن تسيطر علينا؟ وما موثوقية مشاعرنا وانطباعاتنا؟ هذه أسئلة للفيلسوف والاقتصادي أمارتيا سن، ويجيب بالقول: قد يفيد الإحساس بالظلم كإشارة تدفعنا إلى التحرك، لكنها إشارة تتطلب معاينة دقيقة، ولا بد من أن يكون هناك تدقيق في سلامة الاستنتاج القائم على هذه الإشارات.
ويقول أمارتيا سن إنه توجد كثير من المقارنات الأخرى، في حين يمكن بنجاح الحل والاتفاق في النقاشات الموضوعية على كثير من مسائل العدالة النسبية أو المقارنة لا سبيل إلى التوفيق تماما بين ما فيها من اعتبارات متضاربة.
للمرء هنا أن يحاجج بوجود أكثر من منطق للعدالة، كل منطق يجتاز اختبار التدقيق النقدي، لكنه يؤدي إلى نتائج لا كالنتائج التي يؤدي إليها سواه، يمكن أن تنبثق من الناس متنوعي التجارب والمشارب نقاشات عقلانية متضادة، لكن هذه قد تأتي كذلك من مجتمع بعينه، أو من وجهة النظر هذه حتى من الشخص نفسه.
ثمة حاجة إلى النقاش العقلاني مع النفس ومع الآخرين في معالجة المزاعم المتعارضة أكبر من الحاجة إلى ما يمكن تسميته "'التسامح الانعزالي" بحل كسول من قبيل "أنت محق في مجتمعك وأنا محق في مجتمعي"، فالتفكير والتدقيق المحايد أمران جوهريان، لكن حتى أقوى المعاينات الانتقادية قد تبقى فيها حجج متعارضة متنافسة لا تزول بالتدقيق المحايد، ويشدد أمارتيا سن هنا على أن إمكانية بقاء بعض الأولويات المتعارضة بعد المواجهة المنطقية لا ينال من ضرورة التفكير والتدقيق، وستكون التعددية التي سننتهي إليها حينذاك نتيجة التفكير، لا نتيجة الامتناع عنه.