اللغة العربية وترميم الهوية..!

خصصت الأمم المتحدة اليوم الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) من كل عام للاحتفال باللغة العربية. وهو تكريم مستحق للغة جميلة يتحدث وينتج بها مئات الملايين من سكان الكوكب. لكن احتفالنا نحن، أصحاب العربية، بلغتنا يتخذ شكلاً دفاعياً مكافِحاً. فالعربية، في التحصيل الأخير، هي الجوهر والواجهة لهوية مأزومة ومهزومة. ويواجه المهزوم ضغطاً من طرفين: الخارجي العاكف على تعميق أزمته وإحباط معنوياته؛ والداخلي الراغب في الخلاص الفردي بالانسلاخ، ومحاولة التماهي الحقيقي أو المتخيل مع الثقافة المنتصرة.اضافة اعلان
الآن، يجد المنتمون –كما هم- لثقافتهم وهويتهم العربية أنفسهم في صراع مع المشككين والمتنصلين المحليين، الذين يعبرون عن اختلاط الأمور عليهم بوصف العربية بالتخلف، أو اللاعملية، أو العجز عن مواكبة الجدّة والوفرة المفاهيمية العالمية. ولا يفصح هؤلاء عن غيرة إيجابية مُحبّة تتحدّث عن تطوير اللغة في جملة عناصر الهوية التي ينبغي أن تتطور وتتماسك. إنهم يمارسون بدلاً من ذلك نوعاً من اللجوء الثقافي إلى شيء آخر، بالانتصار إلى هذا الآخر وإجلاله على حساب كل مظهر عربي.
من المستفز حقاً رؤية عربيّ لم يفقد اتصاله اليومي بالعربية بالولادة في الغرب أو عيش معظم حياته فيه، وهو يتحدث إلى جمهور عربي بلغة لا شرقية ولا غربية، وإنما خليط غريب من لغتين. ولا يتعلق الأمر باستخدام المضطر مصطلحاً أو مفهوماً ليس لهما مقابل عربي، وإنما هو إقحام استعراضي خائب لكلمات أجنبية في سياق عربي خالص لا يمكن أن يعبر عنه شيء أفضل من العربية. والهدف؟ اعتقاد الإيحاء بالأهمية بعرض شخصية منضمة –لا أعرف كيف- إلى معسكر يُرى على أنه المنتصر والأكثر معرفة. ويفكر هؤلاء: إذا أظهرت معرفة بلغة أجنبية، فإنك رُبَما تخضِع وتقنِع سامعيك باعتبارك مزوداً بشيء من أدوات المهيب والعارف والقوي. وسوف يضفي ذلك على مقولاتك سلطة.
في رأيي المتواضع، كمشتغلٍ بلغتين، فإن هؤلاء المحسوبين على العارفين واقعون في الحقيقة في منطقة ثالثة غير مستقرة بطبيعتها –لا مِن هنا ولا مِن هنالك. إنهم طباق لقصة الغراب الذي أعجبته مشية الحجل فحاول أن يقلدها، فلا أتقنها ولا عاد إلى مشيته، فأصبح أقبح الطيور مشياً. وما يكشفون عنه في الحقيقة هو عَيّ تعبيري، هو مظهر لتفاوض داخلي غير محسوم مع المكان الذي يريدون أن ينتموا إليه. وهم جزء من أزمة الهوية التي تسفر بعض محاولات حلها إلى التدمير الذاتي، من اللغة إلى الحرب.
أتذكر أكاديمية عربية-أميركية، من أصل عراقي، تريد إثبات أنه لا يوجد شيء اسمه أمة عربية، عن طريق تفكيك حجة اللغة كمحدد للأمة. وتقول أنه ليست هناك لغة عربية في الأساس، وإنما «لغات» مختلفة جداً في المنطقة. وهذه اللغات هي اللهجات. ولتوضيح فكرتها، تقول إن أباها العراقي لا يستطيع أن يتفاهم مع مغربي إلا باستخدام الفرنسية، لأنهما يتحدثان لغتين (لهجتين) مختلفتين. وقد تقصدت، وهي تخاطب جمهوراً غربياً لا يعرف ما يجري هنا، إخفاء حقيقة أن كل العرب يتعلمون اللغة العربية القياسية، الفصحى، باعتبارها الأداة الأساسية لتداول المعرفة. ولو صحّت فكرتها، فإن لكل قرية أو منطقة في العالم العربي لهجة يُفترض أن تجعل منه «أمّة». وهي تتجاهل عمداً اختلاف اللهجات المحكية في الإنجليزية حسب المناطق والأعراق والأصول وتضع نفسها في خدمة «الأمة الأميركية» الأكثر تعبيراً عن هذا التنوع في اللهجات في العالم. وكان ما فعلته، مستخدمة صفة «الأكاديمية» كسلطة، هو البحث عن موطئ قدم في «الثقافة المنتصرة» عن طريق المشاركة في تفكيك «الثقافة المهزومة» التي تنسلخ عنها.
هذه الأشكال من العبث بالمكون الأساسي للهوية العربية، كجزء من محاولات خائبة لحل الأزمات الفردية بثمن تعميق الأزمة الجماعية، تعمل فقط على تعميق التيئيس ومشاعر القهر. كل أمم العالَم المتصالحة مع نفسها والمستقرة باختياراتها تميًّز نفسها باللغة، حتى لو كان كل الناطقين بها بضعة آلاف أو بضعة ملايين. وهم ينتجون بها ويتمسكون بها برغم جمهورها القليل. وهم يحسدون أصحاب اللغات التي لها جمهور كبير يتداول منتجها، ويدفعون لترجمة نتاجهم إلى لغات الآخرين ليعلنوا أنفسهم حاضرين في العالم.
بعد كل شيء، تبقى أزمة العربية مظهراً حتمياً لأزمة العروبة. وحلها يأتي فقط مع حل مشاكل الاستبداد، والفساد، والهزيمة المستمرة للذات، وإحباط المعرفة. وسوف تتعافى فقط عندما تصبح لغة أمة منتصرة.