اللغة بين الفصيح واليومي

في جلسة خاصة مع بعض المثقفين، تم طرح إشكالية اللغة العربية من حيث هي لغتان؛ مكتوبة ومحكية، والبون الشاسع بينهما. تلك حقيقة مرة يعرفها المشتغلون مع المجتمع، سواء بالثقافة المكتوبة أو المؤداة، ويدركون أن عليهم اختيار أنموذج واحد حين يقررون تقديم منتج ما للجمهور.اضافة اعلان
الحقيقة، النقاش كان جادا ويحاول أن يتلمس مشكلة كبيرة، لا تلقي بظلالها فقط على النواحي التعليمية، بل تمتد إلى الحياة الاجتماعية نفسها بما فيها من مستويات اتصال وشراكة بين أفراد المجتمع، وبما تشتمل عليه من مستويات ثقافية وفكرية بين فئات المجتمع الواحد، بما فيه من مثقفين نخبويين ومتعلمين أو ذوي ثقافة منخفضة.. وصولا إلى الأميين.
اللغة، بتعريفها البسيط الأولي، هي أداة أو وسيلة للتواصل والتعبير، ولكن، ومع سيرورتها الطويلة في المجتمعات، تحولت إلى أكثر من ذلك، فقد أصبحت "حاضنة فكرية"، لا تتحدد بالمفردة فقط، بل بكل ما يجاورها من لغة جسدية أو إيماءات أو تعابير أو صمت، ما يمنح الجملة أو المفردة أو المصطلح معنى جديدا لا يختزنه التعبير المحكي وحده، بل هو مزيج من القول والحركة، أو التعبير الصوري الذي يأتي به المتحدث، لينقل اللغة من مستوى إلى مستوى آخر من المعنى الاصطلاحي.
المحكية، وخلال مراكمات عبر قرون طويلة من الاستخدام، استطاعت أن تحقق مثل هذا التطور في دور اللغة، خصوصا أنها ظلت دائما "لغة على المحك"، بمعنى أنها هي التي تقع في دائرة الاستعمال اليومي، وهي التي يجري عليها التطوير والتحديث، وهي التي تخضع لمعايير الاستخدام الحديثة، وهي التي تحاول جاهدة تطوير آليات التخاطب والاستخدام بعيدا عن المباشرة الضيقة والمعاني المرسلة بغير آفاق تأويل، سواء للمفردات نفسها أو ما يرافقها من تعبيرات جسدية أو صوتية أو مفاهيم مبتكرة في الاتصال.
للأسف الشديد، مثل هذا التطور لم يطل اللغة الفصيحة، بسبب أنها ظلت خارجة عن إطار اللغة اليومية، فقد تم التأشير على أنها لغة كتابة وقراءة، ولكنها بالتأكيد ظلت خارجة عن إطار التواصل المجتمعي الذي كان بإمكانه تطويرها عبر الاستخدام اليومي، ومنحها آفاقا أكثر رحابة في الاستخدام والحياة.
الأمر الآخر الذي أبقى اللغة الفصيحة خارج إطار التحديث والتطور، هو منحها صفة القداسة كونها اللغة التي نزل بها القرآن، وبذلك فقد استقر في الوجدان بأنه لا يجوز التعديل عليها أو تحديثها وتطويرها وفقا للسيرورات التاريخية والمجتمعية، فتم تجاهلها وإهمالها في الحياة العامة، وظلت في مرتبة ثانية في المجتمعات التي طورت لهجات محكية دينامية، أو "لغات" بديلة أكثر قدرة على التطور وعلى عمل إزاحات في المعنى، أكثر بكثير من اللغة الأم، بينما يتم اللجوء إلى اللغة الأم حين نقرر الصلاة أو قراءة القرآن أو مطالعة كتاب ما.
اليوم نحن نعيش في أزمة مركبة تمتلك أكثر من مستوى، ولكن أهمها بالتأكيد هو الفصام الكبير بين المحكي والمقروء والذي يضع حدودا فارقة لتطور الذهنية العربية باعتبار أن اللغة وعاء حضاري، وليس مجرد أداة للتواصل.
لا أدعي بأنني أمتلك إجابة أو خريطة طريق لهذه المعضلة، ولكنني أطرق جدار الخزان، وأدعو مجامع اللغة العربية في العديد من الأقطار إلى أن يأخذوا على عاتقهم إنقاذ لغتنا، خصوصا أننا نعيش في خضم تحد آخر لم نبدأ حتى اليوم في مجابهته، وهو تحدي لغة العلوم التي لم ننجز سطرا واحدا منها.