الليلة المصرية الكبيرة

بشكل فاجأ الكثيرين، جاءت جمعة الغضب المصرية. قدرة مدهشة على التعبئة والحشد والنزول للشارع، وعفوية وتلقائية تقود الناس وتهدر بقوة جارفة كما هو النيل حينما يتدفق بغضب. مضمون وشكل جديدان للثورة الشعبية السلمية تنتشر عدواها بين المجتمعات العربية بعيداً عن التنظيمات السياسية الرخوة، وعن الأيديولوجيات الهشة؛ وقوى اجتماعية جديدة على رأسها الشباب تؤطر المشهد. كانت الليلة المصرية الكبيرة دراما شعبية عظيمة، ولكن ليست على طريقة الدراما المصرية التقليدية.

اضافة اعلان

يستحق الشعب المصري أن يكون السبّاق في انتزاع ديمقراطية ناضجة تعيد للبلاد كرامتها وتخلصها من الفساد المحلي والتهميش الدولي والإقليمي. وعلى قدر حجم ما يؤمن به الجميع من شرعية المطالب الشعبية المصرية، على قدر خوفنا على مصر، وأمنياتنا بأن يستيقظ النظام السياسي المصري ويستثمر ربع الساعة الأخيرة بالبدء بإصلاحات حقيقية جريئة وسريعة، فالعنوان معروف ولا حاجة لهدر المزيد من الوقت وإراقة المزيد من الدماء.

الوقائع المصرية تأتي متسارعة وبشكل درامي، تحمل كافة الاحتمالات والتوقعات، ما يفسر مواقف العديد من القوى الدولية. فالليلة المصرية الكبيرة لم تدهش النظام المصري وحده، بل أدهشت القوى الدولية التي بدت مربكة. الخوف في هذه الأثناء أن يتمسك النظام المصري بالتصلب وأن يستمر في تقديم الحلول الترقيعية والانتقائية، ما يدفع إلى تصاعد قوى الشارع والدخول في الأيام الطويلة القاسية والصعبة، حيث لن تكون الأحوال في مصر كما جرت في تونس.

على الرغم من التصريحات الغربية المتتالية منذ ليلة الجمعة، والتي دعمت جميعها مطالب الشارع المصري وحقه في التعبير وطالبت السلطات المصرية بقوة بعدم استخدام العنف في مواجهة المتظاهرين الغاضبين، إلا أن العديد من القراءات الاستراتيجية في المراكز الداعمة لصنع القرار في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وغيرها تقدم في هذا الوقت تحذيرات خطيرة، وتدعو إلى عدم تكرار ما تسميه "الخطأ التونسي" عبر التسرع في دعم قوى الشارع ثم الدخول في فراغ سياسي في نهاية اليوم لا أحد يدري من يملك القوة على احتلاله.

تلك القراءات الاستراتيجية الغربية تدعو في هذا الوقت النظام المصري إلى مواجهة الشارع بالقوة حتى لو وصل الأمر إلى مواجهات دموية قاسية، وهو ما يفسر وصف الإدارة الأميركية بانتظار مصر لأيام صعبة. هذه القراءة تقوم على أساس رؤية فراغ في اليوم التالي واحتمالات الدخول في مشهد معقد ومركب من الصراعات السياسية والاجتماعية على خلفية احتقانات مزمنة وعميقة.

كل هذه التداعيات تدل على عمق جرح الانكفاء السياسي وتراجع بريق عاصمة الإقليم في الشرق العربي والإسلامي، وضغط الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المزمنة. فالبلاد التي يضم ترابها ومتاحفها أكثر من ثلث آثار العالم ونصف تراث البشرية، الدولة المدنية التي بدأت مشروعها الحضاري الحديث قبل اليابان ونافستها، العاصمة التي كانت تشغل العالم على مدى عقدين من عمر الحرب الباردة.. تربك بكل هذه الهشاشة. نخاف على مصر، فالأيام القادمة بالفعل صعبة.

[email protected]