المؤسسية الأميركية..!

يصعب أن ينطوي معظم الناس في منطقتنا على رأي إيجابي في السياسات الخارجية لحكومات الولايات المتحدة الأميركية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايانا. وهناك، على أقل تقدير، فصام أميركي واضح في التعامل مع الديمقراطية و"القيم"، بحيث تعمل بدرجة أو بأخرى داخل المجتمع الأميركي، بينما تضمن السياسة الخارجية حرمان الآخرين منها.اضافة اعلان
مع ذلك، لا يملك المرء إلا أن يتأمل بحسد نوعية المؤسسية الحقيقية في الولايات المتحدة، ويقارنها بما تزعمه كل دولة في العالم الثالث لنفسها من "مؤسسية" زائفة. وقد كشف الاستقطاب الذي أنتجه انتخاب الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، بوضوح، عن نوع العلاقات بين السلطات في الولايات المتحدة، بطريقة تُظهر للعالَم فرادة الطريقة التي يعمل بها النظام في ذلك البلد.
سوف يتعجب الذي يطالع الصحف ومقالات الرأي هناك من شدة الخطاب الذي يُستخدم ضد الرئيس نفسه. ولا يقتصر ظهور المقالات المنتقدة على مواقع وصحف المعارضة، وإنما تتناول أغلبية ساحقة من مقالات صحيفتي "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، على سبيل المثال، الرئيس بالنقد الشديد والتعريض. ويستخدم الكتاب في حقه أوصافاً في منتهى القسوة.
بغض النظر عن المفردات المستخدمة، فإن الجدير بالملاحظة هو الحصانة التي يتمتع بها الصحفيون وكتاب مقال الرأي هناك. ولا يمكن تصور أن تتناول الصحافة في كثير من بلداننا العربية حتى مجرد شخص نافذ بمالٍ أو منصب ولو بنقد موضوعي. وإن فعلت، فإنها ستكون عرضة لاستعمال القانون ضدها، وطرد الصحفي أو الكاتب المعني من الوظيفة إذا أفلت مقاله بمعجزة ووصل إلى النشر، أو ربما يتعرض لاعتداء من جماعة النافذ بتوجيه منه، أو انتصاراً عُصبوياً له.
من الإفراط في الأحلام تصور حرية صحفية بهذا المستوى في مناطقنا. لكن من المعقول المطالبة بأن تتاح للإعلام فرصة كشف العيوب وتعقُّب الفساد في السياسات والممارسات، بغض النظر عن الموضوع ومكانة الأشخاص المتورطين، بحيث يكون الإعلامي نظيراً في الحصانة والحماية للمسؤولين في السلطات الأخرى وليس الأرض الواطئة دائماً. وكما تبين الخبرة، فإنه لا يمكن الحديث عن علاقات مؤسسية متوازنة من دون اضطلاع الإعلام، بمصادره وقدراته الاستكشافية، بمهمة مراقبة السلطات الأخرى بحيث تحسب له حساباً بقدر ما يحسب لها.
كانت المسألة الثانية التي تقول ما ينبغي أن يقال عن المؤسسية، هي قيام قاضٍ فدرالي بتعليق مرسوم الرئيس الأميركي حول دخول الناس من الدول الإسلامية السبع إلى الولايات المتحدة. ولم يخَف ذلك القاضي من وضعه فوراً وراء الشمس، أو تحطيم زعرانٍ لسيارته بدعوى الولاء للبلاد، ولم تؤثر عليه مكالمات تخجيل ربما تلقاها، ولم يمزق أحد قراره ويلقيه في سلة المهملات ويأمره بمغادرة منصبه بالملابس التي عليه. بل إن وزارة الخارجية انصاعت فوراً للقرار وأعادت العمل بالتأشيرات اعتماداً على قرار القاضي، واعتصاماً بسلطة القانون.
بعمل الصحافة والقضاء، وبمساندة من العمل الشعبي، يتشكل انطباع بأن رئيس أقوى دولة في العالم ليس مطلق السراح تماماً للتصرف بدفع النزوات. إذ لم تمر الإجراءات الأولى التي اتخذها في أسبوعه الأول من دون مساءلة وكأنها إرادة إلهية لا تُناقش، وإنما تعرضت للتشريح وكان للجميع فيها رأي طليق لم يحجبه شيء. ويعيدنا ذلك إلى فكرة أن الذي يحكم في الولايات المتحدة في نهاية المطاف هو المؤسسة، وليس الأفراد. وإذا استعرض أحد صلاحيات الكونغرس الأميركي، فسيرى كيف يستطيع في كثير من الحالات أن يضبط الرئيس والإدارة، بل وأن يُسقط الرئيس.
عندما يتوافر حُسن النيّة الصادق والوطنية الحقيقية، سيؤمن كل صاحب قرار بأن المؤسسية، على الطريقة الأميركية الموصوفة أو قريباً منها، هي الضمان الوحيد لصيانة الوطن ومواطنيه وضمان مستقبله. وفي هذه الحالة المثالية تقريباً، سيقل إلى حد كبير عمل المزاجية وتحكم الأهواء، لأن هناك أكثر من عَين تراقب مدى التزام كل فرد من أي مستوى بالقانون. أما إذا قُمع صوت الصحافة، وقُنِّن رأي أصحاب الرأي، وأُسكتت الأصوات الشعبية، وروِّض القضاء وجُعلت البرلمانات ديكورات بلا معنى بحيث تحتكر القرار سلطة واحدة، فمن العيب الحديث عن مؤسسية، ناهيك عن النزاهة والوطنية.