المالية العامة وغياب السياسات المتوازنة!؟

 محمد البشير*

عمان- تعرضت المالية العامة في الأردن الى ضغوط متزايدة عبر السنوات العشرين الماضية بسبب المتغيرات الجوهرية التي حدثت في العالم على كافة الصعد السياسية والاقتصادية وتاليا الاجتماعية، خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ولحاق الكثير من الاقتصاديات العالمية ومنها الاقتصاد الأردني بالاقتصاد الرأسمالي (اقتصاد السوق) عبر سلسلة من السياسات المالية والاقتصادية وتعديلات جوهرية على التشريعات التي لها مساس بالاقتصاد على وجه الخصوص والتي وُضعت واقرت مباشرة بعد هذه المتغيرات السياسية وتأثرت بها الاركان الثلاثة التالية للمالية العامة :اضافة اعلان
اولاً: ركن النفقات العامة:
تعرضت الوظيفة العامة في الأردن لانتهاكات عديدة من خلال وضع تشريعات حمّلت النفقات العامة اعباء كانت أكبر من الزيادة التي وقعت على الإيرادات العامة خلال السنوات العشرين الماضية من عمر الأردن والتي كانت على سبيل المثال تتعلق بـ :
1. انشاء الوحدات المستقلة ونزعها من مظلة الادارة العامة واعطائها استقلالا ماليا واداريا عزز من فجوة الرواتب للعاملين فيها قياسا بالرواتب للعاملين في الوزارات الحكومية ودوائرها المختلفة مما رفع من اعبائها على الموازنة العامة خلافا للغايات التي أنشئت من اجلها والتي كان من ابرز هذه الغايات رفد الموازنة بواردات أكثر للتخفيف من عجز الموازنة والتخفيف من الضغط على المديونية وخلاف ذلك حملت هذه الوحدات المالية العامة اعباء جديدة بلغت في سنة 2017 بمبلغ (120) مليون دينار وفي سنة 2018 مبلغ (128) مليون دينار.
2. لجوء الحكومات المتعاقبة إلى التعيينات من خلال العقود التي فاقمت من الرواتب والاجور المدفوعة إلى الأشخاص المتعاقد معهم مما زاد من النفقات بشكل عام وعزز من الفجوة في الدخول بين ابناء الوظيفة العامة وهؤلاء المعينين خارج جدول تشكيلات ديوان الخدمة المدنية دون تحقيق لأية أهداف تذكر بعد شيوع استحداث هذه العقود ومن عين بموجبها.
3. التعديل على رواتب النواب والوزراء خلافا لما درجت عليه قرارات مجلس الوزراء التي كانت تراعي رواتب الفئة العليا وفق نظام الخدمة المدنية والتي اعطت لهؤلاء رواتب تقاعدية تزيد كثيرا عن زملائهم السابقين مما حمل النفقات التقاعدية اعباء جديدة كان في الامكان تلافيها!؟ مما يستوجب اخضاع هؤلاء لنظام الخدمة المدنية باعتبار ان خدماتهم تخضع للخدمة العامة ولا يحق لمجلس الوزراء ان يحدد رواتب الوزراء، والنواب والاعيان حيث تحمل هذه الصلاحية تعارضا في المصالح بالنتيجة ليست لمصلحة المالية العامة قطعا.
4. قامت حكومة معروف البخيت رئيس الوزراء الاسبق  بمحاولة جادة لتحقيق العدالة بين ابناء الوظيفة العامة من خلال اعادة هيكلة الوحدات المستقلة ورواتب القطاع العام بشكل عام هادفة إلى جسر الفجوة في الدخول بينهم والغاء الكثير من الوحدات المستقلة التي اصبحت عبئا على المالية العامة، وقد رصدت الحكومة لاعادة الهيكلة مبلغا لا يزيد عن (80) مليون دينار، وخلاف ذلك تحملت الخزينة جراء تطبيق هذه الهيكلة مبالغ تزيد عن (400) مليون دينار سنويا بعد ان أسيء استخدامها وتطبيقها من خلال ممارسة ضغوط واحتجاجات ادت إلى إعادة النظر ببنودها مما أدى إلى زيادة النفقات المرتبطة بها مع ابقاء الحال على ما كان عليه بالنسبة للوحدات المستقلة.
5. تخفيض ملموس للنفقات الرأسمالية لحساب النفقات الجارية مما خفض من واردات الخزينة من الانشطة الاستثمارية التي كان مأمولا منها تخفيض اعباء الضرائب على المكلفين والمديونية حيث بلغت نسبة النفقات الرأسمالية للسنوات السابقة بما يزيد على (%22) من النفقات العامة واصبحت في موازنات 2017/2016/2015 بحدود الـ (15 %) فقط علماً ان الجزء الاكبر من النفقات الرأسمالية للسنوات الثلاث الماضية ذهب على شكل نفقات جارية (رواتب وتعويضات عاملين).
 من هنا نجد أن معالجة جذرية وهيكلة جريئة للنفقات من حيث رفع النفقات الرأسمالية ، ودراسة رواتب الوظيفة العامة سواء كانت متعلقة بالعقود والانشاءات او نفقات الوحدات المستقلة وخاصة منها الرواتب ومزاياها من خلال تقليص هامش الفروقات من جهة ومعالجة مشكلة الرواتب المتعددة لآلاف المتقاعدين، فيه مصلحة وطنية وضرورة إصلاحية كمدخل لتحقيق العدالة بين ابناء الوطن والتخفيف من الآثار الاجتماعية التي تشكل أعمال العنف أحد تجلياتها الخطيرة.
ثانياً: ركن الضرائب:
نجحت المالية العامة ما قبل 1995 في تحقيق رسالة ضريبة الدخل من حيث تقليص الفجوة في الدخول بين المكلفين من جهة.، وفي رفد الواردات المحلية بتحصيلات افضل للخزينة من جهة ثانية، وفي توجيه رأس المال لتوظيفه في استثمارات كان الأردن في حاجتها كثيرا من جهة ثالثة، بالإضافة إلى نجاحها في مراعاة ما نصت عليه المادة (111) من الدستور الأردني التي تحدثت عن التصاعد بشقيه الشرائح الخاضعة للضريبة والنسب الضريبية حيث توقفت النسبة عند (45 %) على دخل الأفراد الذي تزيد دخولهم على (25) ألف دينار بعد تنزيل اعفاءاتهم الشخصية والتي بلغت الضريبة التصاعدية عليه مبلغ (7420) دينارا بالإضافة إلى (10 %) خدمات اجتماعية، اما الشركات المالية فقد وصلت نسبة الضريبة المتصاعدة عليها الى (55 %) والشركات الاخرى الى نسبة (40 %) والصناعة إلى نسبة (%38) اما القطاع الزراعي فكان معفيا بالكامل.
لقد تم تعديل قانون ضريبة الدخل واصبح ساريا على سنوات ما بعد العام 1995 حيث اتى التعديل على تخفيض النسب الضريبية والشرائح على دخول المكلفين كافة، وتباعا تم التعديل مرة اخرى على القانون في السنوات اللاحقة، وتعويضا عن هذه التخفيضات المتتالية التي تمت على ضريبة دخل الاغنياء سواء كانوا أفرادا أو شركات تم وضع قانون الضريبة العامة على المبيعات حيث خضعت الكثير من السلع والخدمات إلى ضريبة بدأت نسبتها (7 %) ومن ثم رفعت إلى (10 %) وبعد ذلك الى (13 %) واستقرت بعد ذلك على (16 %).
ان السياسات المالية التي تم اتباعها كانت تعبيرا عن انتصار، امتداداً لانتصار رأس المال عالميا خاصة في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، حيث اعتمدت واردات الخزينة العامة على دخول الأسر والافراد (القوى الشرائية) مما ادى الى انخفاض الطلب على كميات السلع والخدمات وتاليا الى انكماش اقتصادي اثر على نسبة النمو واخل بميزان المدفوعات انعكاسا لخلل في الميزان التجاري ايضاً، حيث ادت هذه المتغيرات الضريبية إلى تركز النقد (الارباح) على شكل ودائع لدى البنوك الظاهر منها ما يزيد عن الـ(32) مليار دينار لدى البنوك الأردنية والمبلغ الأكبر تم ايداعه في البنوك خارج الأردن، مما دفع الحكومات المتعاقبة بعد التغيير على السياسات الضريبية الى سد العجز المتزايد في الموازنة من خلال فرض ضرائب جديدة على المستهلكين وإلى اختراع سياسات ضريبية جديدة تتمثل في الزام المكلفين باقراض الحكومة باقتطاع ما نسبته (2 %) على فواتير الاستيراد، وما نسبته (5 %) على فواتير الخدمات بشكل عام من عقود ايجار واتعاب مهنية مختلفة والدفع على حساب الضرائب على الارباح نصف السنوية للشركات.
ويضاف اخضاع قطاع الزراعة للضريبة، هذا القطاع المهم في تكوين الناتج المحلي الاجمالي الذي اصبحت مساهمته فيه متواضعة بسبب السياسات المالية التي اتبعتها الحكومات تجاه الزراعة والصناعة بشكل عام، بالإضافة إلى اخضاع تعويضات نهاية الخدمة والرواتب التقاعدية لموظفي الطبقة الوسطى لضريبة الدخل، وقوننة الازدواج الضريبي من حيث اعتبار ضريبة المسقفات بالنسبة لمالكي العقارات نفقة وليست ضريبة مثلاً بعد ان استقر المشرع عبر السنوات الاربعين الماضية على اعتبارها عبئا ضريبيا جرى تقاصه من الضريبة المستحقة على المكلفين بالاضافة الى قوننة الاقتراض من المكلفين، كل ذلك عطل من دور هذه الاداة (الضرائب) في خلق التوازن داخل جسم المجتمع من جهة وفي تحفيز الاقتصاد ودفع عجلة التنمية قدماً للامام من جهة ثانية.
في المعالجة لهذا الركن نجد ان العودة الى قانون ضريبة الدخل ما قبل (1996) مع بعض التعديلات على النسب والشرائح ومراعاة التضخم الذي سببته هذه السياسات، واخضاع دخول الافراد والشركات التي تزيد ارباحهم عن (50) الف دينار مثلاً الى نسب ضريبية عادلة، انسجاماً مع نص المادة (111) من الدستور بالاضافة الى ضرورة اعفاء القطاع الزراعي من ضريبة الدخل وضريبة المبيعات على مدخلاته، ومراعاة القطاع الصناعي بالنسبة للضريبة على الدخل بحيث تقل عن النسب الضريبية على الخدمات مع الغاء النصوص التي تلزم المكلفين على اقراض الخزينة اجباريا واعفاء تعويضات نهاية الخدمة التي فرضتها التشريعات الضريبية على المكلفين مع مراعاة اعفاء تعويضات الطبقة الوسطى من الاستخدام بطرح بدائل تتعلق بفرض ضريبة دخل على تعويضات نهاية الخدمة التي تزيد على (20) ألف دينار مثلا ودخل المتقاعدين الذي يزيد على (3) آلاف دينار، مرافقا ذلك مع خفض واسع للضريبة العامة على مبيعات للسلع ذات المساس الواسع بذوي الدخول المتدنية ورفعها بالنسبة للسلع مرتفعة القيمة وذات المساس الواسع بذوي الدخول المرتفعة، انسجاما مع حاجة الحكومة في توفير موارد مالية مستمرة شهرياً.
اما التهرب الضريبي بشكل عام فالحل يكمن باعتماد نظام الفوترة من خلال اعفاءات مرتبطة بالفواتير الصادرة عن مقدمي الخدمات المختلفة خاصة من المكلفين الخاضعين للضريبة بعد قبول اعفاء أولي لا يزيد على (5) آلاف دينار للشخص الواحد وقبول كافة النفقات المدفوعة لجهات خاضعة لضريبة الدخل والمبيعات مقابل فواتير رسمية،حيث ستوفر هذه السياسة قاعدة معلومات هائلة للدائرة قد تساهم في الحد من التهرب الضريبي و في محاسبة المكلفين مقدمي الخدمات بشكل عادل وصحيح.
ثالثاً: الركن الثالث المديونية:
نظرا لوصول الحكومات إلى الحائط في فرض ضرائب جديدة لمواجهة النفقات المتصاعدة سنويا وحيث ان التعديل على النسب الضريبية والتعاطي مع الاعفاءات يثير الكثير من ردود الفعل شعبياً، بسبب الظروف المعيشية للمواطنين بشكل عام وحيث أن الثغرة ما بين الإيرادات والنفقات كانت في اتساع، فقد لجأت الحكومات الى الوظيفة الثانية لهذا الركن (المديونية) والمتمثلة في الاستدانة لتسديد عجز الموازنة حتى وصلت المديونية الى حدود (27) مليار دينار وبنسبة تصل الى(95 %) من الناتج المحلي الاجمالي.
فالمديونية في وظيفتها الأولى مشروعة عندما تكون من اجل انجاز مشاريع استثمارية تساهم في تراكم ملكية الدولة للموجودات التشغيلية الجاذبة للعمالة والوظائف الداعمة للدخل الذي تحتاجه الخزينة، وهذه المديونية تلجأ لها الحكومات بهدف تغطية خطط الحكومة في النفقات الرأسمالية المحققة لما سلف، وخلاف ذلك كانت النفقات الرأسمالية خلال عقدين من الزمن في تراجع دائم مما فاقم من ازمة المالية العامة على أكثر من صعيد.
إن معالجة حقيقية للمديونية لا يمكن ان تنجح إلا بانتعاش اقتصادي شامل مع السيطرة على النفقات الجارية والتعظيم من النفقات الرأسمالية مع انتهاج سياسات ضريبية متفقة مع المادة (111) من الدستور مع تعظيم للنفقات الرأسمالية بحيث تحقق غاياتها في مشاريع انتاجية تعود على الخزينة بالنفع العام مع محاربة جادة لكل مظاهر الفساد والمحسوبية من خلال خطة استراتيجية تعيد للمواطن ثقته بالوطن ومؤسساته المختلفة.
ان خطة وطنية في اعادة العلاقة بين المواطن والوطن تمر عبر الاصلاح السياسي وعبر مشاركة الناس في صنع القرار، فالممارسات الحكومية خلال السنوات الماضية غيبت العدالة على اكثر من صعيد فالتعليم، الوظيفة، النقل، الدخل، العلاج......الخ، جميعها العدالة فيها غائبة، مما سبب في خلق حالة من الاغتراب ما بين المواطن والوطن وقد شكل هذا الواقع انعكاساً لما ما عانت منه المالية العامة من جهة وما تعرض له الوطن العربي من اعتداءات غربية ساهمت في تعريض الحياة المعيشية للمواطنين في الأردن على وجه الخصوص للخطر على أكثر من صعيد ذي علاقة بالوظيفة او فرص العمل التي اصبحت متواضعة وشحيحة داخل المملكة، ومعدومة خارج الأردن بسبب هذه الظروف الاقليمية من جهة ثانية.

*خبير اقتصادي