المجال العام الجديد

يتشكل اليوم مجال عام جديد بفعل شبكات التواصل، لكنه مجال يفقد تعاقد الفاعلين فيه على إطار للمبادئ والقواعد ينظم المشاركة فيه، وفي ذلك فإنه يتحول في أغلب الأحيان إن لم يكن دائما من مجال عام تتجادل فيه الأفكار والآراء والمواقف إلى عمليات صراع وتضليل وتقسيم اجتماعي عميق للمواطنين والجماعات، فلا يلاحظ الفاعلون في المجال العام أنه ساحة عامة متاحة لكل مواطن يستطيع أن يتصل بالإنترنت، وأن هذا "الوصول" يجعل جميع الفاعلين/ الواصلين على قدم المساواة المطلقة أو قريبا من ذلك، وفي ذلك فإنه لا مجال لتنظيم هذا الفضاء إلا بأن يكون كل فاعل/ واصل مقبولا في مشاركته، وأن يلتزم أيضا كل فاعل باحترام وحق كل مشارك على قدم المساواة، وأن يكون الجدل بين جميع الافكار والاتجاهات والآراء عقلانيا فقط، بمعنى أنه لا سلطة غير العقل على فكرة أو شخص، وأن كل فكرة أو موقف يستندان إلى مقولة دينية أو مصلحة اقتصادية أو اجتماعية يجب عقلنتهما؛ أي تقديمها إلى الناس والمؤسسات بما هي مواقف عقلانية لا يضيف الدين أو المصلحة أو الطبقة لها قيمة تفضيلية.

اضافة اعلان

إن الدين في الفضاء العام منظومة ثقافية اجتماعية تشكل أحد مكونات الهوية والتنظيم السياسي والاجتماعي والأخلاقي، لكن الدين ليس المصدر الوحيد للتشكلات والتشريعات والتنظيمات السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وليست المواقف والاتجاهات المستمدة من الدين في الفضاء العام تمتلك أفضلية أو سلطة أخرى غير العقل، ولا يجوز لأصحابها تقديم على غير أسس عقلانية، فالشرائع والتعاليم والتكاليف الجماعية المستمدة من الدين عندما تقدم إلى المجال العام كاتجاهات أو سياسات اجتماعية أو اقتصادية هي أفكار ومقولات قابلة للنقاش والجدل والرد والأخذ على اسس عقلانية، وليست ذات صفة إلزامية أخرى غير ذلك.

والجدل في المجال العام يقيم ويبرر نفسه على أساسه ما يخدم الازدهار وبناء دوافع المشاركة العامة لدى المواطنين والمستفيدين والمستهدفين من هذه السياسات في الاتجاه الذي ينشئ وعيا وتقديرا لقيم الحياة الأفضل والازدهار وتقدير الإنجاز والتقدم والمرافق والسياسات العامة على النحو الذي يجعل القانون والقيم العامة للدولة والمجتمع دوافع ومحركات ذاتية وجميلة تقلل الجهد الرقابي والتنفيذي لمؤسسات الدولة وتطبيق القانون، وإذا لم يكن المجال العام متسقا مع هدف وقيمة الازدهار والحريات فإنه يفقد مبرراته، ما يعني أيضا وبالضرورة أنه لا أفضلية لفئة أو فكرة تجعلها تشعر بالاستعلاء أو تجعل أصحابها يشعرون بالرفض والكراهية تجاه المخالفين، فلا أحد مرفوض في المجال العام.

والقيمة العليا في المجال العام هي ضمير وأخلاق مستقلة عن حوافز الثواب والعقاب سواء في الحياة أو بعد الممات، لكنها قيم مستمدة من الحرية والازدهار وتحسين الحياة وتحرسها أيضا، وقد صعدت الفردية في هذا المجال الشبكي، وبعد أن كانت (الفردانية) ضريبة لعصر الصناعة، فإنها تتحول إلى قيمة سائدة أو فضيلة في عصر الشبكية والثورة الصناعية الرابعة، ما يجعل التفكير في المجال العام يأخذ بالاعتبار أن الفرد أو "الذات الفاعلة" هو المكون الأساسي للمجتمعات والمؤسسات، وربما يحل محل التكوينات الجماعية السابقة، كما يقلل ذلك من دور التنظيم الاجتماعي والأخلاقي التي كانت الوعاء الأساسي لتنشئة الفاعلين الاجتماعيين وصياغة وتحديد أهداف الدولة ومؤسساتها.

وتصعد في المجال العام الشبكي قيم الثقة والإتقان كقيم عليا للأسواق والمؤسسات والعلاقات الدولية والتجارية والاجتماعية، ما يجعلها شاغلا محوريا للسياسات والعمليات التعليمية والثقافية كما الاقتصادية والسياسية.

ومن وظائف المجال العام الحفاظ على الجدل العام بين الاتجاهات والأفكار والمواقف باعتباره مجالا مفتوحا وليس ملزما، كما أنه عالم إبداع وتخيلات اجتماعية يمنح فيه المواطنون حياتهم معا شكلا مشتركا، وهو أيضا عالم استكشاف وتجريب لا يملك فيه أحد الصواب، لكنهم يجدون مساحات متداخلة يقدرونها.

ويمكن للمجال العام وحده او بمعونة الحكومة والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية إدارة وإطلاق حالة من الاستماع المشترك بين جميع المواطنين والمهتمين من أجل تقرير غاية المجتمع وهويته وكيف يدرك أهدافه. والإبقاء على الانسجام والاحترام المتبادل بين أتباع الرؤى المختلفة للعالم.