المجتمع المدني في تونس: إعادة ضبط توقعات السياسات الغربية

تونسي يمر من أمام ملصقات انتخابية - (أرشيفية)
تونسي يمر من أمام ملصقات انتخابية - (أرشيفية)
خبراء - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 25/1/2023 في 23 كانون الثاني (يناير)، عقد معهد واشنطن منتدىً سياسياً افتراضياً مع سابينا هينبرج، وإيمي هاوثورن، وجان-لوي روماني بيرو. وهينبرج هي "زميلة سوريف" في المعهد ومؤلفة دراسته الجديدة "المجتمع المدني في تونس: إعادة ضبط التوقعات". وهاوثورن هي نائبة مدير الأبحاث في "مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط" (بوميد). وبيرو هو مدير "مبادرة السياسة لشمال إفريقيا" ومقرها تونس. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهم. * * *

سابينا هينبرج

لمسار المجتمع المدني التونسي منذ ثورة 2011، وردود الفعل المختلطة إزاء التغيير في السلطة الذي أحدثه الرئيس قيس سعيد في تموز (يوليو) 2021، تداعياتٌ مهمة على السياسات الخارجية والمساعدات الأميركية. فعندما اعتُمد "المرسوم رقم 88 للعام 2011 قبل أكثر من عقد من الزمن، وفّر إطاراً قانونياً مهماً لتنظيم جمعيات المجتمع المدني، ومنحها الحماية القانونية للعمل بحرية وتلقي التبرعات من الخارج. ولكن في الآونة الأخيرة، تم استغلال مسألة التمويل الأجنبي للاعتراض على القانون. وفي حين أثار بعض النقاد مخاوف أمنية (على سبيل المثال، الأموال التي من المحتمل أن يتم تحويلها لدعم الإرهاب)، فإن منظمات المجتمع المدني تتفق إلى حد كبير على أهمية القانون لأنشطتها وتخشى أن تلغيه الدولة في نهاية المطاف. غير أن الجدل القائم حول "المرسوم 88" يسلط الضوء أيضاً على المخاوف التي أعربت عنها المنظمات الدولية والجهات المانحة التي تعمل بشكل وثيق مع المجتمع المدني التونسي، بما في ذلك التساؤلات حول التزام هذا المجتمع بالديمقراطية والقيم الليبرالية. فعلى الرغم من استحواذ الرئيس على السلطة، كانت جماعات المجتمع المدني العلمانية إلى حد كبير في البلاد مترددة في معارضته بشكل صريح لأن العديد منها يشاركه ضمنياً أجندته المناهضة للإسلاميين. وإضافة إلى ذلك، في حين حقق ائتلاف الجماعات القيادية المعروف بـ"رباعي الحوار التونسي" نجاحات في البداية لناحية تسهيل الحوار الوطني، إلا أنه فشل في النهاية في التوفيق بين الفصائل الإسلامية والعلمانية المنقسمة بشدة في البلاد. ولم تؤدِّ هذه الانقسامات إلا إلى تأجيج شكاوى السكان بشكل عام. إذ يعتقد العديد من المواطنين أنه تم استبعادهم من قبل الطبقة السياسية النخبوية، التي غالباً ما يتم انتقاد أجندتها لتجاهلها مشاكل الناس. ولسوء الحظ، أصبحت الحكومة الأميركية أمام معضلة يثيرها هذا الوضع، حيث يتعين عليها أن تقرر ما إذا كانت ستضاعف مساعداتها لتونس أو تقلصها. والنهج الأفضل في ظل القيود الراهنة هو مزيج من خطوات متوازنة عدة. أولاً، يجب على واشنطن أن تواصل إظهار تضامنها مع المجتمع المدني التونسي من خلال الاعتراض على التعديلات الجديدة التي تؤدي إلى تقويض "المرسوم 88". ثانياً، عليها أن تدعم إصلاحات مكافحة الفساد التي تخفف من حدة المصاعب الاقتصادية وتعزز الحياة السياسية. وسيتعرض الرئيس التونسي لضغوط شديدة لمعارضة مثل هذه الإصلاحات نظراً إلى خطاباته حول هذه القضايا. ثالثاً، من شأن الاستمرار في تمويل التعليم أن يوفر طريقة جيدة للحفاظ على المساعدات الاقتصادية من دون استفزاز الرئيس. فبرامج تطوير التعليم قد تساعد على حل التفاوتات بين المجتمعات الساحلية التونسية والمناطق الداخلية الأكثر حرماناً.

إيمي هاوثورن

وفقاً لما يشير إليه بحث سابينا، لم يكن يجدر بالمسؤولين الغربيين أن يستغربوا رد المجتمع المدني المحدود على الاستحواذ الجديد على السلطة في تونس نظراً للانقسامات المجتمعية الراسخة في البلاد. ومن أبرز أسباب هذه الانقسامات إلى أي مدى يجب السماح لحزب "النهضة" الإسلامي بالمشاركة في السياسة. وفي الواقع، كانت بعض منظمات المجتمع المدني على استعداد لقبول تدابير غير ديمقراطية لمجرد إضعاف حزب "النهضة". ولطالما كانت المنظمات غير الحكومية التونسية محدودة في قدرتها على تعبئة المواطنين دعماً للديمقراطية، لكن ضعفها الحالي يعكس بشكل أكبر انقسام الشعب واستياءه من الطبقة السياسية العاجزة. بخلاف الحالات الأخرى في الشرق الأوسط، لم يتدخل الغرب بشكل كبير في تكوين المجتمع المدني في تونس. لكن الجهات المانحة أخطأت في ناحية حاسمة، وهي أنها وضعت توقعات غير واقعية بأن المجتمع المدني يستطيع التغلب على الانقسامات طويلة الأمد في تونس من خلال برامج المساعدات الخارجية المتواضعة. ومن الإخفاقات الكبيرة الأخرى تهميش جهود مكافحة الفساد على حساب إرساء العمليات الديمقراطية ومكافحة الإرهاب. فالجهات المانحة الغربية لم تدرك تماماً مدى تأثير المصاعب الاقتصادية والاجتماعية في تونس على مواقف الناس تجاه عملية الانتقال إلى الديمقراطية. وتشمل الإخفاقات الأخرى تجاهل التفاوتات بين المناطق الساحلية والداخلية (التي يجب أخذها في الاعتبار في التمويل الأجنبي المستقبلي)، والتشديد المفرط على القضايا الأمنية على حساب المساعدة الاقتصادية والديمقراطية. وفي حين أن بعض أشكال المساعدة الأمنية قد أسهمت بالفعل في توفير بيئة أكثر أماناً للعديد من التونسيين والأميركيين، إلا أن هذا النجاح اقتصر على قطاع مكافحة الإرهاب، وتجاوز إلى حد كبير المجالات الأخرى التي تنطوي على مشاكل مثل قسوة الشرطة. في المرحلة التالية، يمكن للولايات المتحدة وأوروبا والجهات المانحة الأخرى دعم المجتمع المدني التونسي عبر التصدي للإجراءات القانونية التي تمنعه من العمل بحرية (مثل تقويض "المرسوم عدد 88 للعام 2011"؛ و"المرسوم رقم 54 للعام 2022" الأحدث الذي يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال). وينبغي نقل هذه الرسالة بوضوح من خلال القنوات الدبلوماسية، مع تجنب النهج المتعرج الذي اتبعته سابقاً إدارة بايدن إزاء الأحداث في تونس. وفي الوقت نفسه، قد يسفر التمويل الكبير لمنظمات المجتمع المدني عن عواقب غير مقصودة نظراً لموقف الرئيس العدائي تجاه هذه الجماعات والمساعدات الخارجية بشكل عام. والحل هو تمويلها بطريقة لا تستفز الرئيس وتدفعه إلى قمعها. وفي هذا السياق، يجب على دعاة الاستقرار والتحول الديمقراطي في تونس ألا يستبعدوا أيضاً السيناريوهات التي يتم فيها استبداله بشخصية أكثر قسوة.

جان-لوي روماني بيرو

على الرغم من أن المجتمع المدني التونسي قد خان قيمه وأهدافه إلى حد ما، إلا أن الحكومات الغربية ارتكبت أخطاء عدة في تعاملها معه. فقد افترضت أولاً أنها قادرة على تحفيز الإصلاحات العميقة من خلال توفير تمويل متواضع للمجتمع المدني. ولم يكفِ توفير درجة عالية من الحرية لضمان التقدم الديمقراطي؛ ففي أحيان كثيرة، أعطى التونسيون الأولوية للأمن الاقتصادي والمادي على حساب القيم الليبرالية. ثانياً، أخطأ المسؤولون الغربيون بشكل متكرر حين اعتبروا المجتمع المدني التونسي جهةً فاعلة مستقلة تماماً وموحدة قادرة على تحقيق التوازن في البلد، في حين ظهر في الواقع أنه متباين للغاية. ثالثاً، تميل الجهات المانحة إلى تركيز تمويلها على المنظمات التي تمثل قيماً مماثلة لقيمها، مما أدى إلى ازدياد أوجه عدم المساواة في البلاد. رابعاً، اعتمد الغرب بشكل مفرط على المنظمات الرسمية للمجتمع المدني، وتجاهل بشكل كبير المبادرات الاجتماعية الشعبية وغير الرسمية التي تحتاج إلى مزيد من التمويل. ومن الصعب احتواء هذه المبادرات والجهات المتنوعة، وبالتالي فهي أكثر ثباتاً، وقد تتفاوت من النشاط السياسي على وسائل التواصل الاجتماعي إلى المشاريع الفنية وفرق مشجعي الرياضة. ما يزال التعليم من أكثر القضايا تعقيداً في تونس. ومع أن المساعدات الدولية وحدها لا تستطيع معالجة العدد الكبير من المشاكل في هذا القطاع، إلا أن بإمكانها توجيه الجهود المحلية نحو تحقيق هذه الغاية وتوفير الضمانات اللازمة بهذا الشأن. فمن الصعب التغلب على الاختلافات المناطقية في البلاد نظراً لطبيعتها المؤسسية والنقص المستمر في الاستثمارات الاقتصادية. لكن هذه الحقيقة لا ينبغي أن تحجب التقدم الذي تم إحرازه في تعزيز الحكم المحلي في جميع أنحاء تونس. ويجب أن يكون الهدف التالي هو وضع المزيد من البرامج التي تعزز مشاركة الشباب مع المسؤولين المحليين -علماً بأن التمويل الأجنبي لمثل هذه المبادرات يجب أن يكون مشروطاً بالإصلاحات بشكل صارم. أما بالنسبة للبيئة السياسية المنقسمة، فلا ينبغي أن تُعزى الإخفاقات على المستوى الحكومي إلى حزب "النهضة" وحده. فعندما كان في السلطة، اتخذ الحزب العديد من الخطوات نفسها التي اعتمدتها الحكومات الأخرى، مثل توفير المزيد من فرص العمل في القطاع العام. وتُعزى الإخفاقات في تونس بشكل أكبر إلى الطبقة السياسية بأكملها، مما يدل على حاجة أعمق إلى إعادة بناء القيم الاجتماعية وزيادة مشاركة السكان على نطاق أوسع في الحياة السياسية. وفي مطلق الأحوال، لا يبدو أن الحكومة الحالية قد وضعت آفاقاً على المدى الطويل. يعد الدعم الأجنبي والمساعدة الاقتصادية لتونس اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، ولكن ينبغي تقديمهما بطريقة تسهم في تحقيق الشروط المسبقة الخمسة للحكم الديمقراطي الرشيد، وهي: ثقافة سياسية مدنية سليمة؛ ومواطن يتمتع بالمهارات الكافية للتفكير النقدي؛ وأماكن عامة آمنة ومتاحة لممارسة النشاط السياسي؛ وآليات للمشاركة الشعبية والحوار بين الدولة والمجتمع؛ ومشاركة مدنية واسعة. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب على الحكومات الغربية أن تخفف تركيزها على تمويل منظمات المجتمع المدني، لتركز بدرجة أكبر على مساعدة الأفراد على المستوى الشعبي حيث تتغذى القيم الديمقراطية. وعند ذلك، يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تظهر بشكل طبيعي جنباً إلى جنب مع تطور القيم الفردية. ومن المنطلق نفسه، سيكون دعم الحوار بين الدولة والمجتمع على المستوى المحلي أكثر فائدة من دعمه على المستوى المركزي. *سابينا هينبرج: زميلة حائزة على زمالة لما بعد الدكتوراه في "كلية الدراسات الدولية المتقدمة" في "جامعة جونز هوبكنز"، حيث تقوم بالبحث والنشر في القضايا المتعلقة بالتحولات السياسية في شمال إفريقيا. إيمي هاوثورن: نائب رئيس الأبحاث في "مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط. جان-لوي روماني بيرو: يدير "مبادرة السياسة لشمال إفريقيا" NAPI، ومقرها تونس. أعد هذا الملخص فارس المعري. اقرأ أيضا في ترجمات: اضافة اعلان

الدين والسياسة (1)

الدين وفكرة صامويل هنتنغتون عن “صراع الحضارات”: مقاربة نقدية