المحطة الأردنية في رحلة الحج البابوية

 

مرت زيارة بابا الفاتيكان، بأيامها الثلاثة، إلى الأردن على خير ما يرام وبأفضل صورة ممكنة، حيث تضافرت عدة عوامل في تظهير الزيارة على هذا النحو اللائق بالضيف ذي المكانة الدينية الأرفع في عالم الكهنوت المسيحي، كان في مقدمتها الضيافة الملكية الراقية، والاستقبالات الجماهيرية الحميمة، والجهود التنظيمية المتقنة التي يستحق القائمون عليها واجب الشكر.

اضافة اعلان

وبرحلة الحج البابوية هذه، وما تضمنتها من فقرات عديدة، لا سيما الوقوف على المغطس، لم يعد الأردن مجرد بوابة إلى الديار المقدسة بالنسبة لمئات ملايين المسيحيين في العالم، وإنما أصبح جزءا من هذه الديار المعذبة، أرضاً وسكاناً منذ أمد طويل، الأمر يعد مكسباً تاريخياً قلّ أن نالته بُقعة أخرى مباركة في أرض النبوات والديانات التوحيدية الممتدة من شمال العراق إلى جنوب الحجاز.

والحق أنه لم يعكر صفو هذه الزيارة الباباوية الناجحة بكل المعايير، سوى بضعة أصوات صدرت في اليوم الأول عن قادة مرموقين في الحركة الإسلامية، اعترضوا على الجانب السياسي من الزيارة، ورأوا أنها استفزازية، وألحوا على وجوب اعتذار صاحبها عن خطأ ارتكبه بحق الإسلام والمسلمين، حين تحدث قبل نحو ثلاثة أعوام عن ثنائية العنف ومحدودية إعمال العقل في الدين الإسلامي، ثم طالبوا قداسته بضرورة زيارة قطاع غزة، سعياً لانتزاع اعتراف ما بالحكم القائم في القطاع المحاصر.

وفيما كنت أتابع عبر عدة فضائيات وقائع الاستقبال الحافل بالحبر الأعظم، استعدت من الذاكرة مشاركتي، وأنا فتى صغير، مشهد الحشود الغفيرة في استقبال البابا بول السادس لدى زيارته مدينة القدس مطالع عقد الستينات، وكان يوماً شديد البرودة، وكانت مظاهر الحفاوة أكثر شعبية، فيما كانت الاعتبارات الأمنية أقل حضوراً، وكان مذيعو دار الإذاعة الأردنية ينقلون بحماسة بالغة، وأحياناً بتلعثم، وقائع الزيارة التي غابت عنها السيارة الزجاجية المصفحة.

غير أنني اكتفيت هذه المرة بمتعة المتابعة المنزلية، وسط مشاعر مختلطة تنازعها اعتباران اثنان: الأول الشعور بالأسف الذي لا يخلو من الحرج إزاء تلك التعليقات الخشنة وغير اللائقة التي تعاقب على التفوّه بها برلمانيون وقادة وناطقون باسم الحركة الإسلامية، عبر إطلالات مكثفة من على شاشات عدة فضائيات متخصصة في التصيّد وتعكير المياه الصافية، حيث فوضوا أنفسهم التحدث باسم الجماهير الأردنية والعربية "المستفزة" من هذه الزيارة.

أما الثاني فكان الشعور بالارتياح إزاء افتقار هؤلاء المتحدثين بأسمائهم لا بأسمائنا جميعاً، لقاعدة جماهيرية قادرة على إغلاق طريق المطار أمام البابا، والاقتداء بحزب الله مثلاً في اعتراضه المدجج بالأسلحة الصاروخية، ضد موقف لا يروق له. فحمداً لكل الظروف الموضوعية التي درأت عنا مخاطر إشعال النار في حطب الكراهية الدينية العتيقة.

ومع أن أحداً لا يجادل في ضرورة تراجع البابا عن ذلك الخطأ الناجم عن سوء فهم تقليدي للإسلام في الغرب، وهو فهم نسبه رأس الكنيسة الكاثوليكية إلى مؤرخ من القرون الوسطى ولم يتبنه بنفسه، إلا أن ذلك الإلحاح على الاعتذار المسبق، والضيف الكبير في صحن دارنا، بدا أمراً لا يتناسب وتقاليد الضيافة، إن لم نقل إنه تسييس مبالغ به لرحلة حج نادرة، وضرب من ضروب التعصب والاستثمار في التطرف، ناهيك الافتئات على أعظم ما في الرسالة الإسلامية من خصائص أصيلة، على رأسها خاصية السماحة والتسامح.

ولو كان الأمر غير ذلك، لما توانى قادة حزب العدالة والتنمية التركي، على سبيل المثال، عن الاشتراط على البابا تقديم اعتذار مسبق لدى قيامه بزيارة أول بلد إسلامي كبير، ولم ينضم الشيخ يوسف القرضاوي يومها إلى المحتجين كما فعل هذه المرة. حيث لم يرتفع من لدّن أركان ذلك الحزب ذي التوجه الإسلامي الانفتاحي أي صوت يطالب بما طالب به هنا كل المبهورين بالطيب رجب أردوغان، صاحب الغضبة المضرية الشهيرة في دافوس إزاء اختصار وقته في الرد على شمعون بيرس.

أما بخصوص مسألة زيارة قطاع غزة، وهي على الأرجح بيت القصيد في هذه الحملة على زيارة البابا للأراضي المقدسة، فإننا نحيل هؤلاء إلى البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو رئيس منظمة المؤتمر الإسلامي، لينبئهم بما تعرض له هذا المواطن الذي ينتسب إلى وطن الطيب رجب أوردوغان من إهانة بالغة، على أيدي سلطة الأمر الواقع في القطاع المحاصر، وكيف أُقفل باب المجلس التشريعي في وجهه، ثم عاد إلى معبر رفح وحيداً بلا وداع، وذلك بسبب اعتماده على سيارات الأونروا في تنقلاته بين حطام غزة، بدلاً من الجيبات العسكرية التابعة لملثمي القوة التنفيذية.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن ما يلفت الانتباه حقاً، أن بعض المتطرفين الصهاينة ذهبوا في اعتراضاتهم على زيارة البابا إلى القدس، حد رفع دعوى قضائية لاعتقال البابا، أو منعه من السفر، إلى أن يتم استعادة شمعدان ذهبي وغيره من الأواني التي صادرها الإمبراطور الروماني تيتوس عام 71 ميلادية لدى هدمه هيكل سليمان، مدعين أن هذه المقتنيات التي لا تقدر بثمن موجودة في خزائن الفاتيكان إلى يومنا هذا.

على أي حال، فإنه من حسن الطالع أن الذين تحدثوا باسم الجماهير العربية والأردنية ضد زيارة البابا، لم يجدوا من بين طيف الطبقة السياسية الأردنية من يقول قولتهم، أو يساند موقفهم، فظهروا وكأنهم على الهامش، غير قادرين على تمثل الوجدان العام لشعب اغتبط بهذه الزيارة، وعوّل على مردوداتها الطيبة، بدليل أن أحداً لم يشاطر هؤلاء أقوالهم الخشنة، أو أن كاتباً أو صحيفة أو منبرا إعلاميا محليا حذا حذوهم حيال ضيف كبير تتمنى كثير من الدول في المنطقة لو أنها تتمكن من استقباله، ولو ليلة واحدة.