المحللون العسكريون الإسرائيليون بوق جيشهم

كنا في الأيام الأخيرة أمام مشهد إسرائيلي مكرور: عدوان على دولة مجاورة، وارتكاب جريمة اغتيال من دون الاعتراف الصريح بارتكابها. لكن إسرائيل أرسلت، كالعادة، فريق "المحللين العسكريين" في كبرى وسائل الإعلام، ليبثوا رسائل إلى الجمهور العام، كي يفهم ويتأكد من أن المؤسسة الحاكمة هي التي نفذت ما وصفته الصحافة ذاتها "نصرا". فهذا ما كان قائما على مدى السنين، لكنه برز في هذه المرحلة بالذات؛ إذ يريد بنيامين نتنياهو أن يُسجل لنفسه "نصرا دمويا"، وهو في أوج الاستعدادات للانتخابات البرلمانية.اضافة اعلان
وإذا جمعنا كل التقارير التي ظهرت في السنوات الثلاث الأخيرة، فسنتوصل إلى استنتاج مفاده أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يُشرف على الجانب المحرر من مرتفعات الجولان السوري، ومن المؤكد أيضا منطقة أوسع في العمق السوري. وهذا ما أثبتته سلسلة تقارير صادرة عن فريق الأمم المتحدة المتواجد في المنطقة، عند خط وقف إطلاق النار. ولهذا، فإن قصف الموقع العسكري في القنيطرة، يؤكد أنه كان واقعا تحت المراقبة الإسرائيلية بدقة كبيرة.
وكما في غالبية الاعتداءات الإسرائيلية على الدول المجاورة ودول أبعد منها، فإن النظام الإسرائيلي الحاكم يتكتم على الأمر، ولكنه في الوقت نفسه هو أكثر المعنيين بأن يعرف الجمهور الإسرائيلي على وجه الخصوص، ثم العالم كله، أن إسرائيل هي التي ارتكبت هذا العدوان. وقد علمتنا تجارب السنين، أن الوسيلة الأسهل لتمرير الرسائل الإسرائيلية غير المباشرة، هم المحللون العسكريون الإسرائيليون، ومنهم محللون بارزون، لهم دور في عملية صناعة الرأي العام، وهو ما كان في الأيام الأخيرة.
فمن تابع كل المقالات التي كتبها المحللون العسكريون البارزون، يرى فيها وجه التشابه إلى درجة التطابق في أحيان كثيرة. أكثر من هذا، فإن هؤلاء المحللين كتبوا مقالاتهم على مدى الأيام الأربعة اللاحقة لذلك العدوان، وفي كل واحد من هذه الأيام، كنا نشهد تشابها في الرسائل. فقد ظهرت مقالات اليوم الأول، وكأنها تسأل عن الجهة المنفذة، مع تلميح واضح إلى "مصلحة إسرائيلية في العملية". ومنها ما اعتبر أن اغتيال الشاب جهاد عماد مغنية بمثابة "نصر إسرائيلي".
بعد ذلك بيوم، لاحظنا في كل المقالات توضيحا أكبر لحقيقة أن إسرائيل هي التي نفذت هذه الجريمة. لكن مقال المحلل في صحيفة "هآرتس" عاموس هارئيل، يوم الخميس الماضي، بعد أربعة أيام من العدوان، كان واضحا فيه أن نتنياهو يريد استثمار العدوان إلى أقصى الحدود، ليزيد رصيده الانتخابي. ففي حين قالت التقارير السابقة إن إسرائيل لم تكن تعلم بوجود الضابط الإيراني، جاء مقال هارئيل ليدعي عكس ذلك، فيقول إن الطاقم الوزاري المصغّر للشؤون الأمنية، كان على علم بوجود الضابط الإيراني لدى المصادقة على الانطلاق لتنفيذ الجريمة.
بطبيعة الحال، فإن بعض هذه المقالات جرى تغليفه بديباجات مختلفة. فمثلا، هناك من انتقد توقيت العملية، وآخر امتدحها، لكن كان هذا جانبا هامشيا في تلك المقالات.
هذا النهج يتعزز في السنوات الأخيرة. إذ رأينا في الحروب الأخيرة ما يمكن وصفه بأنه دور مبطن للمحللين العسكريين، لتجنيد الشارع الإسرائيلي تأييدا للحرب، وليس ذلك فقط من خلال تصعيد الخطاب المتطرف لقادة المؤسسة الحاكمة. فمثلا، عرض المحللون على الجمهور العام، وبشكل منسق بينهم، الخطط العسكرية التي تنفّذ على أرض الواقع، وجعلوها جزءا من النقاش العام، وطرحوا أسئلة مثل: "هل على الجيش خوض عملية برية؟"، و"هل على الجيش أن يستمر أو يوقف الحرب؟".. وغيرها من الأسئلة التي تحتاج إلى رد الخبراء والمعنيين في النظام الحاكم. لكن هذا الأسلوب جعل الإسرائيليين يتفاعلون مع الحرب، ويتوهمون أنهم شركاء في آلية اتخاذ القرار. وهذا بحد ذاته مظهر جديد من مظاهر عسكرة المجتمع الإسرائيلي، والذي دأبت الصهيونية على تثبيته وترسيخه على مدار عشرات السنين.
قيل أكثر من مرّة هنا، إن الإعلام الإسرائيلي، رغم ما يُظهره من حالة انفتاح وتعددية، إلا أنه في الجوهر الأساس مُجنَّد ومُجنِّد للاستراتيجية الصهيونية العليا.