المدن والإنسان والهوية

الحب والكراهية والفقر والغنى وحتى المواطنة مفاهيم نتداولها ونتبادل الحديث عنها بالرغم انها مجردة ولا معنى لها الا في عقول الافراد وتجاربهم المشتركة. صور المواطنة تتولد من تجاربنا الشخصية اثناء التنشئة والتفاعل مع المحيط والعالم. في حالات كثيرة يحتدم الجدل بين الافراد حول قضية من القضايا لمستويات تفضي إلى الصراع دون ان يغير اي منهم موقفه.اضافة اعلان
الجدل الدائر بين الاشخاص حول قضايا المجتمع منطقي وحقيقي ومشروع فكل يعبر عن رؤيته للظاهرة والواقع من الزاوية التي يراها محكوما بالتجربة الفردية له سواء كانت معاشة ام متخيلة. عند سماعنا لأشخاص يتحدثون في قضية تعنينا فإننا ننحاز لأولئك الذين يتحدثون عن القضية بلغة تحاكي تجاربنا وخبراتنا اكثر من اولئك الذين يصفونها ويقدمونها بأثواب لا نعرفها.
في السياسة والاقتصاد والفن والعلاقات وطبائع البشر ليس من حق اي منا انكار مشاعر الناس ومحاولة ثنيهم عن كيفية شعورهم تجاه الاشياء بالحجج والحكايات فقط. التغيير في المواقف والاتجاهات يحتاج إلى خبرات جديدة اكثر من الحاجة إلى الحجج والدفوعات. فالخبرات السابقة لا تمحى ولا تتبدل بمجرد انكارها او ادانتها لكنها تتبدل حين يكتشف الافراد صورا بديلة ومشاعر اخرى.
في جلسات الحوار والاحاديث الجانبية وحتى في ادبيات الاحزاب وجماعات العمل المختلفة تجد الاردنيين على خلاف في تقييمهم لأوضاعهم ومدى الرضا عنها. البعض يرى اننا بألف خير ولديه الاستعداد لتقديم الشواهد على اننا نعيش في مجتمع يوفر الامن ويراعي الحرية والاحتياجات ويحقق التكافل. هذه الفئة تجدها في الاحتفالات والمناسبات العامة تتملكهم مشاعر الاعتزاز والزهو فيتحدثون عن القيسوم والزعتر والشموخ والعز والتفوق والكرم والطيبة والسماحة الاردنية ويدندنون بين وقت وآخر كلمات الاغنية التي تقول "لفينا العالم لفينا، مثل بلدنا ما لقينا" غالبية من يتبنون هذه المواقف ينتمون لطبقة النفوذ السياسي والامني والعشائري والتجاري اضافة إلى من تطوعوا لتقديم خدمات والقيام بالادوار التي تخدم برامج الادارات المحلية.
على الجانب الآخر يقع الكثير من الشباب ممن تقطعت بهم سبل الحياة وفقدوا فرص التعليم والعمل والزواج بعد ان تعطلوا عن العمل وشهدوا حالات التمييز والتفاوت وملوا خطابات الساسة ووعود الحكومات فأصبح يتملكهم الخوف و الضجر يتطلعون إلى الهجرة والابتعاد عن كل ما يربطهم في المجتمع وتشكيلاته.
بين هاتين الفئتين برزت في السنوات الاخيرة قوى شبابية ومجتمعية تطالب باصلاحات سياسية واقتصادية وادارية باساليب وادوات سلمية. الكثير من اعضاء هذه القوى تراجع عن المطالب او غير من مواقفه لاسباب ذاتية وموضوعية متعددة. بالرغم من تبدل الاشخاص وتغيير البعض لمواقفه الا ان العناوين والاسئلة والشعارات ما تزال قائمة مع اختلاف تركيبة القوى التي ترفعها او تنادي بها.
في الفضاء المشبع بالجدل السياسي والهموم الاقتصادية يحتاج مجتمعنا إلى اطلاق قوى الابداع وروح الاحتفال بالحياة فالمدن بحاجة إلى ان تصبح اكثر جمالا لتعبر عن هوية ساكنيها فتنشر التعبيرات عن تاريخها وانسانيتها وقيمها الجمالية والانسان الذي صنع روحها ومجدها.
التشكيلات البصرية المجسدة لهوية المكان تذكر السائح والمقيم بنشاط السكان الزراعي وميزة المنطقة النسبية وتولد الكثير من الاعتزاز في نفوس الساكنين المتعبة والضائعة. من المهم العناية بكل ما قد يسهم في بناء الروح المعنوية الدافعة للعمل والانجاز فلا ضير من بناء او نحت مجسم ضخم للبندورة على مداخل الاغوار وشجرة زيتون عملاقة على بوابة الطفيلة ودوار من الرمان عند مدخل الريان.
استبدال الخبز والقمح والخيل بمراوح توليد طاقة الرياح حدث يبعث على التأمل واليأس خصوصا وانت ترى غياب اثر التحديث على واقع الاهالي الاقتصادي وفي غياب دراسة الاثر البيئي لهذه الاجسام المعدنية العملاقة التي ينتصب كل واحد منها على مئات الاطنان من الهياكل الخرسانية.
في الوقت الذي تتسلل الشراكات والانساق الثنائية الاستراتيجية وغير الاستراتيجية لتحاصر المدن والحقول والمراعي بمزارع حصاد الريح التي اصبحت ابرز مظاهر المكان يتساءل الناس عن مدى تاثير انتشارها على اسعار الكهرباء وجودة المراعي وصحة الانسان فلا يجدون اجابة.
تجريف الوجدان الاردني من بقايا مكونات الهوية يأتي من التوسع في زراعة قواعد الاسمنت في اكثر الاراضي الزراعية جودة وخصوبة وطغيان التشكيلات البصرية الحادة على جماليات المكان الذي حرم لسنوات طويلة من التنمية والتطوير ليصبح ميدانا خصبا لسباق التوربيدات الهوائية.
في لقاء غير رسمي مع بعض كوادر الطفيلة التقنية تمنيت على اساتذة الجامعة العمل على اجراء دراسة تفصيلية لأثر التوسع في استخدام مزارع حصاد الريح على البيئة والارض والانسان وتدريس ذلك للطلبة والأساتذة والسكان.