المدن والرواية المهددة بالزوال

تبلورت المدن منذ آلاف السنين حول قلعة الحكم وهيكل العبادة وسور الحماية والقداسة! ويقدم كتاب لويس ممفورد "المدينة على مر العصور" خريطة مدهشة لهذا التطور. بدأت القلاع والحصون لغرض تسلط أقلية صغيرة على جماعة كبيرة، وكان السلاح يستخدم داخل المجتمع وليس للحروب مع المجتمعات الخارجية، فكما يرى برونيسلا مالينوسكي فإن الحرب بما هي صراع بين جماعتين مستقلتين ومنظمتين تنظيما سياسيا، ولا تقع بين البدائيين. فالحرب كالعلم حدث تاريخي مرتبط بالحضارة. وقد ظلت القلعة باقية على الرغم مما طرأ من التغيير على أشكال الحكومة ومهماتها في السنوات الأربع آلاف الماضية، وماتزال تشاهد إلى اليوم، وحيثما أجلنا البصر من قلعة سان أنجيلو إلى الكتلة الصماء القائمة إلى جوار قوس الإمبريالية في لندن، ومن الكرملين إلى مبنى البنتاجون، ومن ثم إلى المراكز الجديدة للمراقبة تحت سطح الأرض. اضافة اعلان
لقد صحب التحول الحضري من القرية إلى المدينة تغير في الوعي الباطن للمجتمع، ذهبت الآلهة المحلية المألوفة التي كانت تماثيلها تقام قرب مدافئ البيوت، وتغلبت عليها وحلت مكانها إلى حد ما الآلهة البعيدة، آلهة السماء أو آلهة الأرض، التي تمثلت في الشمس والقمر والماء والرعد والصحراء، وتحول الزعيم المحلي إلى ملك شامخ، وأصبح الكاهن الأول للمعبد، وأضيفت إليه صفات إلهية، وأصبحت القرى تحت إشراف وإدارة موظفين عسكريين ومدنيين وجباة ضرائب مسؤولين جميعا أمام الملك. وتشكلت طبقة الحكم والأرستقراطية على أساس القوة والشجاعة والبطولة. ربما يكون الدين هو المصدر الأسبق والمؤسس للتغير نحو المدينة. وظهر في حوالي 3000 قبل الميلاد مجموعة من التطورات التكنولوجية التي أسست المدن، مثل زراعة الحبوب، والمحراث، والعجلة، وصناعة الفخار، والسفينة الشراعية، والنسيج اليدوي، وتعدين النحاس، والرياضيات البحتة، والمشاهدات الفلكية الدقيقة، وتقويم السنة، والكتابة، وكان من أهم التحولات الاجتماعية عندما تحول الصياد من دفع الأذى عن الناس إلى زعيم يجمع منهم الضرائب. ونرى أن هذه الشخصية اتخذت فجأة مظهرا يتجاوز حدود البشر، فكل سلطاتها وامتيازاتها زادت زيادة هائلة بقدر ما تضاءل نصيب الرعايا من السلطات والامتيازات، إذ لم تعد لهم إرادة مستقلة ولا قدرة على الحياة بمعزل عن حاكمهم.
والحال أن أهم عامل في التغير من أسلوب حياة القرية المفكك الأوصال إلى أسلوب المدينة المنظم تنظيما دقيقا، كان الملك، أو بالأحرى نظام الحكم الملكي، وأما التصنيع والمتاجرة المقترنان في نظرنا بنمو المدينة فإنهما كانا لمدة قرون من العوامل الثانوية، بل لعل ظهورهما جاء متأخرا عن ذلك، فإن كلمة تاجر لاتظهر في الكتابة في بلاد ما بين النهرين إلا في غضون الألف الثانية قبل الميلاد، عندما تصف موظفا في معبد منح حق التجارة مع الخارج، بل إن وظيفة الملوك كانت هي إنشاء المدن، ويحتل الملك في التجمع الحضري واسطة العقد، فهو قطب المغناطيس الذي يجذب إلى قلب المدينة كل القوى الجديدة التي توافرت للمدينة، ويضعها تحت سيطرة القصر والمعبد.
لم تكن القلعة ملاذا دفاعيا يعتصم به ابن القرية عندما يتهدده المغيرون المتنقلون من مكان إلى مكان، وإن صار الحصن فيما بعد يستخدم لأغراض حربية، ولعل استخدام السور في مبدأ الأمر كان لأغراض دينية، كبقية الحدود المقدسة لحرم شريف ولصد الأرواح الشريرة أكثر منه لصد المعادين من البشر. والحال أن مبتدأ القلعة كان لصون أملاك الزعيم وأسلابه مثل الحبوب والنساء من غارات النهب ومن سخط القرويين، ذلك أن من يتحكم في فائض المحصول الزراعي كان يملك سلطة الحياة والموت على جيرانه، ولقد كان خلق عجز مصطنع وسط الوفرة الطبيعية المتزايدة أحد الانتصارات التي اتسم بها النظام الاقتصادي الجديد للاستغلال المتمدن، وكان نظاما اقتصاديا يتعارض تعارضا جوهريا مع تقاليد القرية.