المسؤول والمواطن!

تحدّث رئيس الوزراء (في مقابلته مع التلفزيون الأردني الأخيرة) عن الأزمتين المالية والاقتصادية والتداعيات الاجتماعية، وكان أحد الموضوعات الواضح تركيزه عليها هو "نمط الاستهلاك الاجتماعي"، الذي يجعل مستوى الإنفاق وحجمه لدى شريحة واسعة من المواطنين غير منضبط، وأعلى من الحدّ المطلوب، وغير متناسب في كثير من الأحيان مع مستوى الدخل الحالي، ولا مع الأزمة المالية- الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد.اضافة اعلان
من حيث المبدأ ما ذكره الرئيس صحيح، ومن الخطأ أن نبقى في حالة إنكار بأنّ هنالك اختلالات واضحة في إدارة شريحة واسعة من الأردنيين لإنفاقهم ومصاريفهم، وإن كان التعميم أيضاً خاطئا، لأنّ هنالك شريحة لا تملك ترف الإنفاق فوق الحاجات الأساسية (غير مرئية لدى نسبة من السياسيين والمسؤولين ورجال الأعمال). ولأنّ هذه الأنماط مرتبطة في العديد من الأوقات بمشكلة حقيقية في الخدمات المقدّمة من الدولة، مثل السيارات الخاصة (بدلاً من النقل العام)، التعليم الخاص (بدلاً من الحكومي).. الخ.
الرئيس كان صادقاً – من وجهة نظري- في دعوته الأردنيين إلى إعادة النظر في "أنماطنا الاستهلاكية"، وأتفق معه بالكلية، بأنّ هنالك ضرورة اليوم بأن يدرك الأردنيون بأنّنا لسنا دولة نفطية، وأنّ علينا العمل الجاد والمستمر، وبضرورة توازن الإنفاق مع الدخل، وبأنّ سياسات التشغيل ستحل محلّ التوظيف في المستقبل.
ذلك كلّه جميل، وهو خطاب مهم وضروري من الرئيس للشارع. لكن في المقابل، هنالك الوجه الآخر للعملة، وهو النمط الاستهلاكي للحكومات والمسؤولين عموماً، فمن الضروري أن يتوازن هو الآخر ويتكيّف مع واقع الأزمة المالية والاقتصادية، ومع دعوات المواطنين إلى الصبر والتحمّل، فأين هو تحمّل الطرف الآخر من المعادلة!
لتوضيح ذلك، استأثر باهتمام أصدقاء ومجموعات من الأردنيين، خلال الأيام الماضية، فيلم وثائقي قصير (مدته 7 دقائق) عن عمل الحكومة في مملكة النرويج، بداية من وزير العدل والداخلية، مروراً بقاضية نرويجية- دنماركية، وصولاً إلى وزير الخارجية، كل ما أتمنّاه أن يشاهد الوزراء والمسؤولون الأردنيون هذا الفيلم والسلوك لدى الوزراء النرويجيين!
هنا، نتحدث عن مملكة غنية بالغاز والنفط وتملك اقتصاداً ثرياً ومتقدّماً، لكن الرقابة والمحاسبة والمساءلة على المال العام وعلى سلوك الوزراء تصل إلى درجة مطلقة من الشفافية، والوزراء ليسوا معزولين عن المواطنين، سواء في خدمات النقل العام، أو في السكن في أحياء عادية، أو حتى في خضوع مصروفاتهم كاملةً للرقابة والمساءلة الإدارية.
هنالك "حساسية شديدة" في النرويج للمال العام، من الضروري أن يكون المسؤولون والوزراء الأردنيون مسكونين فيها، في مواجهة "شبح الفساد" الذي يحوم حول العلاقة بين الدولة والمواطن منذ أعوام هنا. مثلاً لا توجد سيارة للوزير، هنالك سيارات أقل من عدد الوزراء، ويستخدمونها بحسب الحاجة، بالتناوب بينهم، والأصل أن يقوم الوزير باستخدام خدمات النقل العام، ويحاسب في حال ركب بتكسي (تخيّلوا)، وبالفعل تعرّضت قاضية مشهورة هناك لـ"فضيحة كبيرة" لأنّها استخدمت التكسي، بمخصصاتها، فالمعيار أن تلتزم بالمواصلات العامة، وهكذا وزير الخارجية محدد له ميزانية متواضعة لمصاريفه، ويركب بالمقاعد العادية المخصصة للركاب في الرحلات الداخلية، ويتناول غداء متواضعا.. وهكذا.
سيقول لي الرئيس ووزراء آخرون أنت ترانا في المناسبات الخاصة ونحن نأتي بسياراتنا الشخصية، وبلا سائقين، وذلك صحيح، فالأردن أفضل حالاً بكثير من الدول العربية، لكنّ المطلوب أكثر بكثير، أن يقترب المسؤولون والوزراء أكثر وأكثر من المواطنين وحياتهم العادية ومعاناتهم، وأن يعكسوا الانطباع بأنّ ضبط الأنماط الاستهلاكية مطلوب من المسؤول والمواطن على السواء.
وللحديث بقية..