"المساعدات" الأميركية للفلسطينيين..!

أول شكل عرفه الفلسطينيون من "المساعدات" الأميركية هو أكياس الطحين التي كانت توزع على المهجرين في مراكز وكالة الغوث، وعليها رسم اليدين المتصافحتين (شعار الوكالة الأميركية للتنمية الدولية). وليست المفارقة خافية في كون هذه المساعدات تأتي من الدولة التي ساهمت وما تزال في إبقاء الفلسطينيين فقراء ومحتاجين إلى المساعدة في المقام الأول. كما أن قبول المساعدات، حتى من العدو، كانت وسيلة اللاجئين الفلسطينيين للبقاء على قيد الحياة –إلى حين تدبر أمر الوقوف على الأقدام والاستغناء عن المساعدة وصاحبها.اضافة اعلان
لا يختلف الوضع كثيرا اليوم، حيث قدمت الولايات المتحدة المساعدات للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وليس الهدف إبقاء الفلسطينيين، كشعب، على قيد الحياة بعيش الكفاف، فالولايات المتحدة هي صاحبة الطائرات والقذائف التي تقتل الفلسطينيين كل يوم في فلسطين المحتلة. ومثلما كان شرط تقديم الأكياس باليدين المتصافحتين هو إبقاء الفلسطينيين أحياء، وإنما لاجئون، فإن الشرط اليوم هو إبقاء السلطة في
رام الله حية، وإنما لأداء دور وظيفي محسوب يفترض –بالنظر إلى نوعية الواهب- ألا يفيد قضية حرية الفلسطينيين.
لعل الهدف الأوضح للمساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية هو إدامة قوات الأمن الفلسطينية في المقام الأول، بأدوارها التي تتعلق بالتنسيق مع الاحتلال وإحباط المقاومة أكثر مما تتعلق بجلب الأمن للفلسطينيين. ومثل أي واهب ينفق عليك، فإنه سيعاقبك إذا لم يعد راضيا عنك بقطع المصروف عنك وتجويعك. والتعبير السياسي عن ذلك هو استخدام "المساعدات" من أجل الضغط على السلطة الفلسطينية لتقديم المزيد من التنازلات، دائما لصالح الكيان الصهيوني المحتل، باعتبار ذلك العمل المطلوب من "السلطة" والذي ستخصم أجورها أو تقطع بناء على أدائها في إنجازه.
في الفترات الأخيرة، شرعت الولايات المتحدة، في إطار تمرير "صفقة القرن" التي يعدها ترامب وفريقه الصهيوني، في حجب المساعدات عن السلطة الفلسطينية تباعا. وآخر مكون من "السلطة" يحرم من التمويل هو قوات الأمن الفلسطينية نفسها، التي عكف الأميركيون على تنظيمها وتدريبها و"تسليحها". والحقيقة أن هذا السلوك الأميركي يبدو محيرا. فهو يتناقض مع توصيات أنصار المعسكر الصهيوني في الكونغرس والمراكز المفكرة، بل ومن مؤسسة الاحتلال نفسها، الذين يرون في إضعاف السلطة الفلسطينية إضرارا بمصلحة الكيان. ويشير هؤلاء إلى أن "الاستقرار" في الضفة الغربية، وكذلك عمل قوات الأمن الفلسطينية في التنسيق مع أمن الاحتلال يريحان الكيان الصهيوني من الكثير من الصداع.
عبر دانا سترول ودانييل شابيرو عن شيء من ذلك، حين كتبا: "تدرك مؤسسة الأمن القومي الإسرائيلي على نحو مؤلم أنها ستواجه العبء -المالي والأمني وغير ذلك- لمواجهة الانهيار الشامل في الضفة الغربية أو قطاع غزة، إذا ما ابتعدت الولايات المتحدة أو فقدت كامل نفوذها ومصداقيتها مع الفلسطينيين. وإذا ما خسرت قوات الأمن الإسرائيلية تعاون قوات الأمن الفلسطينية، فستجد نفسها في وضع أسوأ بكثير مع الحاجة إلى التدخل المباشر لمواجهة التهديدات الأمنية في المناطق المأهولة بالفلسطينيين، بدلا من التحرك من خلال النموذج متعدد الجوانب التي تموله الولايات المتحدة".
ما الذي يعول عليه الأميركيون إذن في مغامرتهم المتمثلة في تكثيف الضغط على السلطة، مع إدراك أن انهيارها سيلحق الضرر بالكيان الصهيوني، ويلغي المكتسبات التي حققها في الأمن والاستيطان ومصادرة الأراضي والظهور بمظهر الباحث عن السلام من خلال أوسلو والمفاوضات؟ سوف يعني تحلل السلطة الفلسطينية، في رأي الكثيرين، إعادة كلفة الاحتلال المادية والأمنية والأخلاقية إلى الكيان. كما أنه يحقق ما يرفضه الكثيرون من أنصار الكيان: دولة واحدة بنظام تمييز عنصري، مع ما ينطوي عليه ذلك من خطر تأليب المجتمع الدولي.
يغلب أن الأميركيين يقيسون ثقل الضغط على السلطة الفلسطينية بقطع المساعدات بحيث لا يصل بها إلى نقطة الانكسار –ولو أن من الصعب تحديد مثل هذه النقطة. كما قد يعول الأميركيون على سلوك السلطة نفسها، حيث هددت أكثر من مرة بوقف التنسيق الأمني مع الكيان، أو بعدم التحدث مع الأميركيين، أو بإثارة قضية جرائم حرب الكيان في المحاكم الدولية، أو حتى بحل نفسها، دون أن تتمسك بأي من ذلك وتنفذه. وربما تعول السلطة على معرفتها بأهميتها لكل من أميركا والكيان. لكن مبدأ "المساعدات" الأميركية نفسه للفلسطينيين، لا يمكن أن ينطوي على أي معنى إيجابي.