المستعين بأمجاد الماضي

لستُ ضد تبجيل السابقين الذين تركوا أثراً مهماً، وكانت لهم يد في صوغ وصناعة الحاضر، وأن يظلوا حاضرين كملهمين وأصحاب نظريات نستعين بها.اضافة اعلان
لكن الأمر يصير مَرَضيّاً حين يصير الماضي مهيمناً على خطابنا ونشِطاً فينا أكثر من الحاضر نفسه، ويصير الموتى هم عُدَّتُكَ الوحيدة لمواجهة الحياة.
لذلك يثير الاستغراب هؤلاء الذين يظلّون يعتدّون بمقولات سياسية وأدبية لسياسيين وروائيين ورسامين عاشوا في خمسينيات أو ستينيات القرن الماضي، ويرمونها في وجهك في كل نقاش، كأنها عصا موسى التي ستلقف كل ما سواها!
لا أظن سوانا من الشعوب لديه هوس الاستعانة بالموتى، واستحضار مقولات غافية في متون التاريخ، لمحاكمة الحاضر، فتجد من يحاججك وأنت تناقش لوحةً تشكيلية أو رواية أو مقولة سياسية معاصرة برأي لفنان أو كاتبٍ رحل قبل خمسين سنة، ولا أعرف من أين أتاه الجزم واليقين بأن هذا الرجل لو عاش كان سيقول بهذا الرأي وسيظل مستخدماً المسطرة نفسها!
ثم إنك تحكم على هذا الراحل (الذي أنت مبهور بمقولاته القديمة) بأنه لو عاش خمسين سنة أخرى فلم يكن ليغير في آرائه، وأنت هنا من دون أن تنتبه تضعه في خانة الذين لا يتطورون ولا يتعلمون ولا ينتجون شيئاً جديداً!
والحديث هنا، عن مواقع التواصل الاجتماعي، على الانترنت؛ حيث هي سوق خصبة للدلالات الاجتماعية والثقافية، ولقراءة راهن المجتمع العربي، ومن خلالها يمكنك أن تقرأ أنماط التفكير السائدة، وفيها تلحظ هذه الظواهر المثيرة للتفحّص!
فغالباً، وعند كل حدث سياسي أو ثقافي أو عيد وطني أو حتى مناسبة كروية، تجد صور الراحلين من سياسيين وكُتّاب وفنانين مع مقولات قديمة لهم يجري توظيفها بشكل ارتجالي لدعم رأي جديد وحادثة جديدة!
وهذا بالطبع منشأه ظاهرة "القياس" التي أغرم بها العرب دائماً لإراحة أنفسهم من عناء التفكير، وإلقاء هذا العبء على شخصٍ ميتٍ لا يستطيع الدفاع عن نفسه!
فضلاً عن الانتهازية البشعة التي تقع هنا، بتوظيف شخص ميتٍ، له سمعته المقدّرة، للدفاع عني، كشخص حي ولكن ضعيف الرأي وقليل الحيلة!
كما أن فكرة السطو على مقولات شخص راحل واجتزاء ما نريد منها، بالسكين، ولصقه بآرائنا تبدو جزماً واضحاً وصريحاً بأن الحاضر لم يعد قادراً على مجابهة ما يحدث وبأن هذا الراحل نفسه كان عقيماً حين لم ينجب من يستطيع أن يُطوّر فكرته!
..
لستُ بالتأكيد ضد تبجيل الراحلين، وصون تراثهم، والاعتداد بأفكارهم الثمينة، لكنني أحاول أن أفهم لماذا لا نستفزّ الحاضر ليكون منتجاً؟
لماذا الاستعانة بالموتى في كل مناسبة؟ ولماذا يسكننا الحنين الى الماضي دائماً كمساحة آمنة لا تحتمل الالتباس.
في ظنّي أن الأمم التي تصنع الحضارة الآن، ونحن نناقش أفكاراً كهذه، هي الأمم المسكونة بحنين وَثّاب الى المستقبل، ولا تظلّ تنظر خلفها بتثاؤب!