المسلمون والبابا

نأمل أن يكون توضيح البابا ومن قبله بيان الفاتيكان نهاية للأزمة التي تصاعدت في العالم، فنحن في الوطن العربي بحاجة كبيرة لاستمرار العلاقات الإسلامية المسيحية في حالة من التفاهم والانسجام الديني والفكري لأننا نؤمن أن الشرق بمسلميه ومسيحييه ويهوده هو الشرق العميق الراسخ، وأنه مقر الأديان السماوية جميعها، وأن الشرقيين ينظرون إلى الأديان جميعها كمورد حضاري وثقافي عميق ومشترك. والمسلمون ينظرون إلى جميع الأديان باعتبارها مصدرا للإيمان "يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، وأن الحروب والصراعات التاريخية والقائمة هي صراعات دول ومصالح وليست صراعات دينية وإن وظف الدين فيها.

اضافة اعلان

كيف أشعلت محاضرة للبابا عن "العقل والإيمان" موجة من الانتقادات والغضب وربما العلاقات السيئة بين المسلمين والمسيحيين أو الشرق والغرب؟ هل كان ذلك خطأ البابا أم خطأ الغرب المشحون بالاحتقار والكراهية للإسلام والمسلمين أم خطأ المسلمين المستفزين والشاعرين بالإهانة والغضب تجاه الغرب والمغيبين لقيم الحوار والدفع بالتي هي أحسن؟

وفي جميع الأحوال فإنها أزمة ليست متصلة مباشرة بالإسلام والمسيحية الديانتين اللتين تصدران عن "مشكاة واحدة" والمفترض أنهما تدعوان معا إلى الإيمان والعقل، وأنه مهما بلغ الخلاف بين أتباعهما فإنهما تتفقان على قيم الإيمان والتسامح والعلم والعقل، وأن الاختلاف بينهما كديانتين لا يصل ولا يجوز أن يصل إلى العداوة والقتال والكراهية، قال تعالى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون" .

كان اقتباس في محاضرة أكاديمية فلسفية ألقاها البابا بينديكيت السادس عشر في جامعة بون، وهي في الأصل عن العقيدة المسيحية، ولم يكن ذكر الإسلام فيها سوى شاهد أو مثال ذكره البابا ليؤكد فكرة العقل والمنطق في الإيمان، ولم تكن دراسة للإسلام أو الجهاد، ولكنه على أية حال مثال غير موفق، ولم يكن البابا حذرا أو مدركا للعواقب السيئة لعرض هذا الاقتباس لإمبراطور بيزنطي من العصور الوسطى، هو في حالة حرب مع دولة إسلامية (تركيا)، فهذا الاستحضار لأجواء الصراعات السياسية والعسكرية في العصور الوسطى في مرحلة جديدة مختلفة كليا لا يناسب (ربما) شخصا في موقع وعلم البابا، ولكنه خطأ وقع، وسيظل موضعا لجدال طويل ومؤلم ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين ولكن أيضا بين المسلمين أنفسهم في موضوعة علاقتهم بالغرب والتي اختلطت فيها الصراعات والمصالح والتجارب التاريخية بالأديان والأفكار والثقافات حتى إنه بات من الصعب الفصل بينهما.

وقد عبر البابا عن أسفه لما تركه هذا الاقتباس في محاضرته من حالة اعتبرت مسيئة لمشاعر المسلمين، وأوضح أنها "كانت في الواقع اقتباسا من نص يرجع للعصور الوسطى، ولا يعبر بأي صورة عن فكري الخاص"، وأشار إلى ذلك بيان وزير خارجية الفاتيكان والذي أكد أن البابا كان وما يزال يدعو لحوار صادق وصريح باحترام عظيم متبادل.

بالطبع فإن المثقف الإسلامي العام يدرك تماما العلاقة بين الإيمان والعقل في الإسلام، والدعوة إلى الفكر والحوار، ويدرك الحقائق التاريخية القائمة على انتشار الإسلام بالدعوة والسلم وأن 80% من العالم الإسلامي القائم اليوم وصل إليه الإسلام وانتشر فيه عبر الزمن سلميا ومن خلال العلاقات التجارية والثقافية بين المسلمين وشعوب العالم، ويدرك أيضا الأثر العميق للرسالة الإسلامية ولشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الرقي بالبشرية وتطوير العلم والحضارة وتقدمهما في العالم، ويدرك أيضا المجازر والفظائع التي ارتكبها الغرب في جميع أنحاء العالم، من قتل بالجملة للأطفال والنساء، وإبادة شعوب بأكملها، وإلقاء القنابل النووية على مدن آهلة بالسكان، ويلاحظ الفقر والجهل والفوضى في الدول والبلاد التي احتلها الغرب في مقابل التقدم والثراء والمشاركة الكاملة في البلاد التي دخلها الإسلام، ويدرك التقدير العظيم الذي يخص الإسلام به المسيح عليه السلام.

لكن الأزمة ليست في المعرفة والجدال والحوار، وإنما هي سياسية بالدرجة الأولى تتعلق بإدارة المسلمين (حكومات ومجتمعات وأفرادا) لأزمتهم السياسية داخليا أو على صعيد علاقتهم بالآخرين.

[email protected]