المسوّفون المحترفون

يمكن تعريف نهج التسويف في الإدارة العامة، بأنه عملية تجنّب فعل الفعل بجميع الطرق الممكنة والمتوافرة في القانون والنظام، ومن داخل بيروقراط مؤسسات الدولة الرسمية! ويتميز "المُسوّف المحترف" بالفهم العميق للإجراءات الإدارية التي يعيش بمُكتسباتها. فيأخذ الوقت بالتنظير حول نشاط جوهره بسيط، ويختار الطريق الأصعب أو الأطول لنفسه ولمن حوله لإنجاز المهام والعمليات. وقد يجمع الفِرق، ثمّ يُفرّقها لتشتت الفكر والتركيز. وهو يتمتّع بحنكة اجتماعية، وبقدرته على الاحتفاظ بعمله للنّهايات. يتطوّع لمهام وطنية في العادة، تسقطُ بالتقادم، لكنه لا يُغفل تذكير من حوله بحمل الإنجاز الوطني.اضافة اعلان
ولكي تصبح مُسوّفاً محترفا ضمن المُرتّبات العليا، فإن عليك التقاط كلمة "لعم"، وهي إجابة بـ"لا ونعم" في الجُملة نفسها. وحضور كلّ الاجتماعات أو الدعوة لها، وإشغال آخرين بقائمة طويلة، ثمّ إنجاز بند واحد منها. ثمّ الاجتماع ثانية حول البند بحضور الصحافة. ولا بدّ من أن تبدو على الدوام عصّي الالتقاط ورقما صعبا ومشغولا بقضيّة مبُهمة، أو بأي حال، عن موعد مهم وعاجل! ومن الضروري تحمّل النهايات المفتوحة، والتقدّم بخطط إنقاذ ذكيّة لحرائق وأعداء وهميين، والتحوّط لصدامات قادمة! لكن إن ضاقت أخيرا السُبل، فسيسعى المُسوّف المحترف، عبر عمليّة التنقّل العابر بين الدوائر والوزارات بمُسميّاتها الوظيفية، إلى تجريب وصف وظيفي آخر، ثم التكيّف عبر استراتيحيّة الترحيل الدائم للقرارات و"دفش" المبادرات لعهد آخر. ولأنه أيضا العارف بمخارج الإدارة ودواخلها، وضليع بالتاريخ، فلا بدّ من أن يتحوّل إلى عنق الزجاجة، بعد أن قطنها طويلا بانطباع أنّه غير قابل للاستبدال.
ومن التسويف كنهج، إلى الديناميكية في الإدارة، نرى أمثلة كثيرة من الواقع؛ من مثل ما تقرّر (أو لم يتقرّر) بشأن تخفيض سعر الكهرباء، كاستجابة طبيعيّة لحقيقة أخرى هي انخفاض أسعار النفط عالميّا، ثمّ ربط كل ذلك بالمسار الاقتصادي العام في البلاد! لكن الذي حدث هنا هو "تسويف" لتطبيق بدهيّ، ولفكرة تتمتّع بقبول شعبي جارف ناشدت بها  بيوت الصناعة وخبراء السوق. كما يُظهر الموقف ذاته أنه على الرغم من وجود التوقّعات المشروعة والطبيعية، وهي في الأغلب كافية لصاحب القرار لأخذ القرار السريع، يبزغُ فعل التسويف لدينا "كنهج" في فعل الإدارة. ولي أن أتصوّر أن شخصا في مكان ما قد "نظّر" لساعات حول ضرورة التمهّل، وحكمة التروّي، وقام بتعداد الخسارات، فأغلق نافذة بفرصة شعبيّة! وهنا فُقدت فرصة لتأكيد الثقة بنجاعة نظام اقتصادي بأكمله، إن ارتبط سريعا بأسعار السوق!
وفي مثال آخر؛ هناك التسويف في ترجمة القرارات على الأرض كاستجابة موصولة بنبض الشارع. وذلك على الرغم من خبرات وسائل التواصل الاجتماعي. وتلك كلّها  في عالم مواز فرص ضائعة إن لم يتمّ التنفيذ سريعا على الأرض. والأمثلة كثيرة.
التسويف آفة. والخلاص منها أصبح مثل فرض واجب في العمل العام. وفي هذا معارك صغيرة لا بدّ من بدئها. ففي اعتبارات السن، الحلّ عبر تقديم عروض التقاعد المُبكّر. أما في موضوع الخوف من نتائج فقدان هذه الفئة بما تحمله من معلومات، أو خشية عودتها ("بالطخّ" من الوراء)، فإن الحلّ هو في أتمتة الإجـراءات، وتوزيع الصلاحيات، وتدريب خبرات مُوازية، ومنح التعويضات العادلة بناء على تقييم الأداء التراكمي. وفي الواقع، لا أحد يستطيع أن يقطن عُنق الزُجاجة، ولا يستمع للناس في الوقت ذاته! والمؤسّسات تحتاج إلى شباب، أو إلى مخضرمين بعقول شابّة، "دمهم محروق" على النتائج وعلى التطبيقات، تُترجم الوقت بحساب التكلفة.

*خبيرة في قطاع الاتصالات