المشهد الانتخابي في العراق ومآلاته

بغداد- قد لا توجد ديمقراطية حقيقية تُبنى نتائجها على أساس الأداء الانتخابي للأحزاب والكتل والشخصيات المستقلة، وإنما هناك ديمقراطية "توافقية" باتفاق رؤساء الكتل والأحزاب المتنفذة على اقتسام السلطة وتوزيع المناصب السيادية بعيدا عن مخرجات العملية الانتخابية. ويعاني المجتمع العراقي من انقسامات عرقية وطائفية ساهم الغزو الأمريكي في ترسيخها باعتماده المحاصصة السياسية على أسس الانتماء العرقي أو الطائفي، وتبني مبدأ الديمقراطية "التوافقية" في توزيع المناصب السياسية بالتوافق بين رؤساء الأحزاب والكتل المتنفذة. ولا يعوّل الناخبون على التغيير مستقبلا عبر صناديق الاقتراع في ظل واقع سيطرة تلك الأحزاب والكتل على الجزء الأكبر من قرار الدولة العراقية، ووفرة المال السياسي والسلاح خارج سلطة الدولة، والقدرة على التأثير في نتائج الانتخابات ومجمل العملية الانتخابية. هذه العملية الانتخابية دفعت حكومة مصطفى الكاظمي لدعوة مجلس الأمن الدولي للإشراف على الانتخابات، ومراقبتها من 52 دولة عربية وأجنبية ونحو 20 منظمة دولية. وتعتقد الولايات المتحدة أن هناك حاجة إلى فريق من المراقبين الدوليين لمنع تقويض الانتخابات عبر مراقبة العنف الممارس من قبل المجموعات المسلحة التي تعمل خارج سيطرة الدولة ضد المقترعين والصحفيين، وضمان عدم التضييق على الناخبين أثناء عملية الاقتراع. وتبنت الولايات المتحدة والأمم المتحدة دعم طلب وزارة الخارجية العراقية في فبراير/ شباط الماضي، لإرسال مراقبين قبل موعد الانتخابات. وفي مايو/أيار الماضي، وافق مجلس الأمن على إرسال مراقبين تابعين للأمم المتحدة بأعداد كافية لمنع عمليات التزوير، ودعا بعثة الأمم المتحدة الخاصة لمساعدة العراق، لتقديم الدعم للمنظمات المحلية والدولية والمراقبين المحليين والدوليين لضمان تصويت حر وشفاف وبدون ضغط أو تدخل سياسي. وستكون مهمة فريق المراقبين، مراقبة الانتخابات وليس الاشراف عليها، وفق الخارجية العراقية. بعد احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تعدت مطالب المحتجين توفير الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء، والحد من البطالة ومكافحة الفساد إلى المطالبة بإجراء تغيير جذري في العملية السياسية القائمة منذ 18 عاما، واجراء انتخابات مبكرة بعد أن أرغم المحتجون رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي على تقديم استقالته قبل إكمال ولايته الدستورية التي كان يزمع انتهائها بانتهاء الدورة التشريعية لمجلس النواب في مايو 2022. لذلك كانت هناك حاجة للاستجابة لمطالب المحتجين والحد من تصعيد احتجاجاتهم بتلبية بعض مطالبهم بترشيح شخصية تبدو "مستقلة" وتحظى بتأييدهم، مثل شخصية رئيس الوزراء الانتقالي الكاظمي، الذي فقد بعد عام من رئاسته الحكومة الكثير من جماهيريته نتيجة استمرار قتل المحتجين وعدم محاسبة الجناة وتقديمهم للقضاء العراقي، وفشله في حصر السلاح بيد الدولة. ولا ينوي الكاظمي الترشيح مرة أخرى لرئاسة الوزراء، كما أنه لا يمتلك كتلة في مجلس النواب أو حزبا سياسيا. ولا تزال هناك شكوك في إجراء الانتخابات بموعدها المقرر في أكتوبر المقبل، على الرغم من تأكيدات الأمم المتحدة والإدارة الأمريكية، التي قالت ممثلتها الأممية، ليندا غرينفيلد، في 11 مايو الماضي، إن الانتخابات العراقية "أولوية قصوى للولايات المتحدة والأمم المتحدة"، وإن هناك ضرورة ملحة لإجراء انتخابات ذات مصداقية في موعدها المقرر. ومن بين مستلزمات إعادة ثقة الناخب بالعملية الانتخابية، قدرة الحكومة على حماية مراكز الاقتراع من تهديدات المجموعات المسلحة وتدخلاتها، وتأمين حياة المرشحين ومراقبي مراكز الاقتراع، والناخبين أيضا، الذين تزيد أعدادهم عن 25 مليون ناخب. وأثارت عمليات اغتيال الناشطين، وآخرها اغتيال الناشط إيهاب الوزني في مايو الماضي بمحافظة كربلاء (جنوب)، وإفلات المسؤولين عن قتلهم من العقاب، ردود فعل واسعة في أوساط الحركات والأحزاب الناشئة المنبثقة من الحركة الاحتجاجية. كما زادت الدعوات لمقاطعة الانتخابات في الأسابيع القليلة الماضية من نحو 17 حزب جديد. لكن دعوات المقاطعة لن تؤثر على مسار عملية الانتخابات التي ستخوضها الأحزاب التقليدية والأحزاب الحليفة لها التي تسيطر على الجزء الأكبر من السلطة والثروات منذ ما بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. ومن بين أهم دواعي تأجيل الانتخابات أو مقاطعتها من الأحزاب الناشئة والمتعاطفين والمؤيدين للحركة الاحتجاجية، المخاوف من تأثير سلاح المجموعات المسلحة على سير العملية الانتخابية ونتائجها. ويثير السلاح خارج سلطة الدولة مخاوف الكثير من الكتل والأحزاب السياسية التقليدية التي لا تملك أجنحة عسكرية، بما فيها كتل وأحزاب شيعية. وتستحوذ الأحزاب والكتل السياسية المتنفذة على سلطتي المال والسلاح الذي هو في معظمه سلاح خارج سيطرة الدولة حاولت حكومة الكاظمي السيطرة عليه دون جدوى. وتلزم المادة 32 من قانون الأحزاب والمنظمات الحكومة الاتحادية حظر استخدام العنف والسلاح خارج سلطة الدولة لمنع أي تدخلات في العملية الانتخابية. وستشارك في الانتخابات المقبلة أحزاب سياسية عدة لها أجنحة عسكرية وتمتلك سلاحا خارج سلطة الدولة، وهي مخالفة صريحة للمادة الثامنة من قانون الأحزاب والمنظمات التي تنص على ألا يكون تأسيس الحزب وعمله متخِذا شكل تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، كما لا يجوز الارتباط بأية قوة مسلحة. وتجتهد حكومة الكاظمي في توفير أجواء هادئة لإنجاح الانتخابات المقبلة. لكن حكومة الكاظمي لا تزال عاجزة عن مواجهة السلاح المنفلت الذي تمتلكه مجموعات مسلحة معظمها مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، وهو عامل مضاف إلى عوامل عدة تعزز اتجاه عزوف الناخبين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، خاصة مؤيدو الأحزاب الناشئة المنبثقة عن انتفاضة 2019. وسيدفع انتشار السلاح خارج سلطة الدولة، الناخب العراقي باتجاه المقاطعة لإدراكه عبثية الذهاب إلى صناديق الاقتراع والإدلاء بصوته لانتخاب مرشحه في ظل هيمنة السلاح المنفلت على المشهد الأمني في العاصمة وباقي المحافظات العراقية، بما فيها المحافظات السنية. وتسود حالة من الانقسام في أوساط المحتجين الذين يرى التيار الأكبر منهم لا جدوى من المشاركة في الانتخابات، بينما لا يزال تيار آخر يعتقد إمكانية إحداث تغيير جزئي عبر المشاركة وانتخاب مرشحي الحركة الاحتجاجية. ولا يُعتقد أن تحقق الأحزاب المنبثقة عن الحركة الاحتجاجية نجاحات كبيرة في الانتخابات المقبلة لتغيير المشهد السياسي العام، أو في إحداث تغييرات جذرية في مجمل العملية السياسية. ومن المرجح إجراء الانتخابات بموعدها المحدد في 10 أكتوبر المقبل، وعدم تأجيلها مرة ثانية إذ أن الدورة التشريعية ستنتهي حكما في مايو 2022، أي بعد سبعة أشهر فقط من موعد الانتخابات "المبكرة". ويحظى موعد إجراء الانتخابات المبكرة بتأييد الولايات المتحدة والأمم المتحدة والمجتمع الدولي. كما أن جميع الكتل والأحزاب السياسية تعلن بشكل رسمي تأييدها لإجراء الانتخابات في موعدها المقرر، بما فيها تلك التي تمتلك أجنحة عسكرية. وتتخوف الولايات المتحدة من تداعيات إلغاء الانتخابات أو تأجيلها على مجمل الأوضاع الأمنية في العراق. ومع ذلك، فإن إجراء الانتخابات يرتبط أساسا بالأوضاع الأمنية بالبلاد، وهي أوضاع من الصعب التكهن بتطوراتها، كما أن حكومة الكاظمي عاجزة بشكل ما عن ضبط الأمن والحد من فوضى السلاح خارج سلطة الدولة، الذي يشكل التهديد الأكبر على أمن العراق واستقراره.-(الاناضول)اضافة اعلان