المشهد القادم للمقاومة العراقية

ثمة مؤشرات متعددة على وجود حراك حقيقي وفاعل في أوساط المقاومة العراقية، في الفترة الأخيرة، وإن كان هناك تباين وجدال إعلامي حول مسارات هذا الحراك واتجاهاته. فحالة "الضبابية" التي غلبت على هوية المقاومة سابقا بدأت تنقشع، وتتضح القوى الحقيقية والفاعلة التي تتشكل منها ومعالم منهجها ورؤيتها السياسية والفكرية. وبدأت هذه القوى بالعمل على التواصل مع الرأي العام العربي والتعريف بنفسها من خلال حلقات اتصال إعلامي وسياسي أولا، ومن خلال مواقعها على شبكة الانترنت ثانيا، ما سيرشح عنه زوال حالة "التكهن" والدعاوى والشطحات من أطراف مختلفة حول دورها في المقاومة أو علاقتها بها.

اضافة اعلان

أبرز ملامح الحراك الجديد يتمثل بالرد على بيان نائب الرئيس العراقي السابق عزت الدوري، الذي خاطب من خلاله القمة العربية الأخيرة في الخرطوم، وقد جاء الرد من كتائب ثورة العشرين يؤكد أن حزب البعث العراقي، ليس ضلعا رئيسا في المقاومة اليوم، وأنه خارج سياق الترتيب والتنسيق بين قوى المقاومة الرئيسة الأربعة (كتائب ثورة العشرين، جبهة المقاومة الإسلامية، الجيش الإسلامي، جيش المجاهدين)، ما يعني أن الهوية الفكرية والسياسية للمقاومة العراقية هي إسلامية، وأن مطالب حزب البعث بـ"إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال" لا تمثل أهدافا ومطالب للقوى الرئيسة المشكلة للمقاومة العراقية.

الملمح الثاني، وهو الأهم، يرتبط بجماعة الزرقاوي، ويبدو في هذا السياق تضارب في التقارير الإعلامية والتسريبات، فمن يرى أن المقاومة العراقية عزلت الزرقاوي عن إمارة العمل السياسي وحصرت عمله في المجال العسكري، واتفقت معه على عدم التورط بعمليات عسكرية في دول الجوار العربي، مع التأكيد على عدم التضحية به، وبين من يرى أن "مجلس المجاهدين" المكون من فصائل غير معروفة، كانت تابعة للقاعدة ويعمل كل منها باستقلال عن آخرين، ليس له علاقة عضوية بفصائل المقاومة الأربعة، وأنه خطة تكتيكية اتبعها الزرقاوي، ليستدرك على التحولات في المجتمع السني، كما أن تعيين "عبد الله رشيد البغدادي" أميرا للمجلس، يفسره كثيرون برغبة الزرقاوي بالابتعاد عن المشهد السياسي والإعلامي واللجوء إلى الظل.

بعيدا عن الخوض في تفاصيل المعلومات والتقارير المختلفة، من الواضح أن دور الزرقاوي السياسي قد تقلص في العراق في الفترة الأخيرة، وأن هناك موقفا داخل المجتمع السني يرى أهمية خروج المقاومة من عباءة الزرقاوي صونا لهويتها الوطنية- الإسلامية وخطابها الفكري والسياسي المختلف عن مسار الزرقاوي وجماعته، مع عدم الوصول إلى درجة الاصطدام والاقتتال الداخلي بين الطرفين (فصائل المقاومة الأربعة وجماعة الزرقاوي).

وتبدو الأسباب والإرهاصات التي مهدت إلى الحد من سيطرة خطاب الزرقاوي وممارساته على هوية المقاومة العراقية وشخصيتها كثيرة. أول هذه الإرهاصات: التقارير التي أشارت إلى صدامات بين جماعة الزرقاوي وبين عشائر سنية عراقية على خلفية مشاركة السنة في الانتخابات الأخيرة، وهو ما أسفر، وفقا لهذه التقارير، عن سقوط قتلى من الطرفين. وعلى الرغم من أنّ أحداث سامراء وتباطؤ العملية السياسية والخلافات حول تشكيل الحكومة العراقية قد قلّلت الضغوط على جماعة الزرقاوي وحدت من هواجسها إلاّ أنّ هذا لا يعني استعادة الزرقاوي الدور والمكانة الإعلامية والسياسية التي تمتع بهما في المراحل الأولى من المقاومة.

كما أنّ "تفجيرات عمان" (9-11-2005) التي راح ضحيتها مدنيون وأبرياء، وفشل الزرقاوي بعدها بإقناع المقاومة والشعب العراقي والأردني والرأي العام العربي بحججه، والتضييق الذي حدث على المقاومة العراقية بعد هذه التفجيرات، والآثار السلبية على العراقيين في الأردن، كل هذه التداعيات دفعت إلى انتقاد عنيف للعملية في أوساط السنة العراقيين الذين تربط عددا من قياداتهم علاقات جيدة بالحكومة الأردنية، وهو ما انعكس على العلاقة بين الزرقاوي وباقي قوى المقاومة العراقية.

ولا نقلل، في هذا السياق، من أهمية وخطورة الانتقادات التي وجهها للزرقاوي شيخه أبو محمد المقدسي، الذي يحظى باحترام وتقدير من قبل أفراد التيار السلفي الجهادي في العالم أجمع، إذ انتقد المقدسي تصدر الزرقاوي لقيادة القاعدة في العراق، وطالبه بترك القيادة لرجل عراقي، كما انتقد المقدسي الخطاب الإعلامي للزرقاوي والتوسع في "العمليات الانتحارية" واستهداف الشيعة والأشرطة التي تظهر الزرقاوي أو أفراد من جماعته يقتلون الرهائن بقطع الرؤوس، ما أدى إلى تشويه صورة الجهاد والمقاومة.

وبالنظر إلى الخطوات الأخيرة: تولي "عبد الله البغدادي" رئاسة مجلس المجاهدين، اختفاء صور خطف الرهائن عن الانترنت، عدم صدور خطابات جديدة للزرقاوي والحد من نشاطه السياسي، فإن كل هذه المؤشرات تتوافق مع ملاحظات المقدسي من جهة، وتشير من جهة ثانية إلى أنّ المقاومة العراقية قد تجاوزت مرحلة الزرقاوي، وأنها بصدد إعادة التعريف بهويتها ومنهجها الفكري والسياسي. ولعل اللقاء الذي أجراه الزميل والصديق ياسر أبوهلاله مع الشيخ الدكتور إبراهيم الشمري، أمير الجيش الإسلامي، هو أحد عناوين المرحلة القادمة للمقاومة، ونشاطها الإعلامي الجديد.

وبالعودة إلى قوى المقاومة العراقية، واستنادا إلى مواقعها على الانترنت، فإن الصيغة السلفية تبدو طاغية، مع وجود ملامح لخطاب فكري يعتمد على لغة شرعية تختلف تماما عن لغة وخطاب الزرقاوي، إذ تقترب من مقولات المدرسة السلفية وأصولها الشرعية والمعرفية أكثر من جماعة الجهاد المصرية، وهو ما يجعل التحري في العمليات المسلحة وتجنب إهدار الدماء البريئة "مظنة" المرحلة القادمة.

في المقابل، من الملاحظ على خطاب هذه الجماعات الموقف العقدي والفكري الصارم من الشيعة من ناحية، وعدم وجود تصور فكري- وسياسي للحوار الوطني المطلوب للابتعاد عن شبح الحرب الطائفية والأهلية من ناحية أخرى. وحتى لا تتحول المقاومة السنية إلى طرف في حرب أهلية لا بد من تغليبها للمصالح الوطنية والجوامع الدينية على نوازع العداء والفرقة الطائفية، والإعلان الحازم بوضع السلاح في أي صراع داخلي كبادرة حسن نية تجاه الشيعة، وأن تترك المقاومة المسلحة للهيئات السياسية السنية الفرصة الكافية لتحديد الخيارات السياسية، وأن تلتزم المقاومة بهذه الخيارات.

إذا وصلنا إلى هذه المرحلة تكون المقاومة العراقية المسلحة، قد خطت، بامتياز، إلى الأمام، في سياق الدور الصحيح لها عسكريا وسياسيا وفكريا.

[email protected]