المشهد اليمني عن بعد

يعتب اليمنيون في ديار غربتهم الطارئة، ومعهم الحق، على أشقائهم العرب المنشغلين بمهنة الصحافة والإعلام، لما بدا لبعض هؤلاء الملتاعين عقوقاً ولامبالاة وعدم اكتراث، إزاء ما يجري في أرض أجدادنا الأوائل من نوائب تجل عن كل وصف، ليس أقلها الحرب المنسية وتكاليفها البشرية والمادية، وأحسب أنهم يتبادلون فيما بينهم حواراً مكتوماً عن سر غياب الحدث اليمني الطافح بالألم والمعاناة، عن نشرات الأخبار المطوّلة، وعن صدر صفحات الجرائد المنهمكة بشؤونها وشجونها المحلية، وبما تيسر لها من تطورات سورية ووقائع عراقية.اضافة اعلان
ومع وجاهة هذا العتب الممزوج بجرعة من الأسى والأسف المشروع، غير المصرح به على رؤوس الأشهاد، إلا أن من الواقعي القول إن الأزمة اليمنية التي طالت أكثر مما ينبغي، والمرشحة للاستمرار مدى زمنيا أطول، كانت قد دخلت في طور من المراوحة، وفقدت الإثارة، الأمر الذي هبط بها من على الدرجات المتقدمة في سلّم الاهتمامات عندما اشتعلت، وجعل منها بعدئذ مجرد حالة ضائعة من الحالات التي تزدحم بها الأجندة العربية المهمومة بفائض من الاهتمامات، شأنها في ذلك شأن الحالة الفلسطينية والليبية، وغيرهما من الأزمات الغافية في الوجدان العام.
لم تستعد الأزمة اليمنية قدراً معقولاً من الانتباه، وتنال حظاً طيباً من التعليقات، إلا عندما كانت تدخل في تحول تكتيكي قصير الأمد، أو كانت تزخر بأخبار المجاعة، ثم تعود إلى سيرتها الأولى، أزمة روتينية تنضج على نار هادئة. ولم تشذ هذه الأزمة المتفاقمة عن هذا الوضع، إلا عندما اجتاح وباء الكوليرا معظم المحافظات اليمنية، عابراً خطوط المواجهات ومناطق النزاع، وآخذاً في طريقه حيوات آلاف الضحايا وعشرات آلاف المصابين بهذا الوباء، الذي زاد المشهد اليمني بؤساً على بؤس، وطوبه كمأساة.
في الأيام القليلة الماضية ارتفعت درجة حرارة الأزمة اليمنية بصورة مفاجئة، ووصلت إلى درجة الغليان، فعادت المجريات اليمنية لتملي نفسها على جدول الإعلام لدى الدبلوماسيين ورجال الصحافة والإعلام، وقفز خبر البلد السعيد من مؤخرة النشرات إلى الصدارة دفعة واحدة، بفعل ما يلوح في الأفق اليمني من تطور تأخر حدوثه، ونعني بذلك الصدع في جدار التحالف بين شريكين غريمين، لم يوحّد بينهما سوى العداء لحكم الرئيس الشرعي للبلد الذي قد لا يعود إلى ما كان عليه قبلاً.
لا يود قارئ المشهد اليمني عن بعد، أن يدخل إلى دهاليز الحالة اليمينة المتشبعة دون معرفة كافية، وأن يجتهد في مسائل فرعية تستعصي على الفهم لدى المتابعين للتطورات الحافلة بتفاصيل لا يحيط بها سوى الراسخين في المعرفة من أبناء البلد، الذي مايزال فيه الرئيس المخلوع قادراً على حشد مئات الألوف من الرعاع، وراغباً في العودة، هو وأبناؤه، إلى سد السلطة، التي سلّمها إلى أعداء الأمس، انتقاماً ممن أجبروه على الخروج من القصر الرئاسي بعد 33 سنة، فبدا في حينه كمن راح يبول في سرواله نكاية بالطهارة.
ومع خروج الخلافات بين علي عبدالله صالح والحوثيين إلى العلن في الآونة الأخيرة، ووقوع بعض الاحتكاكات بالسلاح بين حلفاء اليوم أعداء الأمس، صار بوسع المشفقين على اليمن من مضاعفات طول الصراع، المتطيرين مما يحيق بملايين اليمنيين من حروب ومجاعة ووباء، أن يعقدوا في هذه الأثناء رهاناً جدياً على احتمال انفراط العقد بين طرفين متربصين ببعضهمها البعض، كأن يعجل مثل هذا التطور المحمود في تقصير مدة الأزمة الدامية، التي استنزفت ما تبقى لدى اليمنيين من طاقات شحيحة، وأهدرت الكثير من المقدرات الخليجية.
نقول ذلك ونحن لسنا على يقين تام من صحة وصواب هذا الرهان المحمول على التمنيات، أكثر مما فيه من حقائق قد لا تصمد في المدى القصير، حيث يبدو الراقص على رؤوس الثعابين في موقف دفاعي متهافت، قد يجبره على الاستسلام لحقائق الأمر الواقع العنيد، فيما يبدو القادمون من كهوف القرون الوسطى في موقف هجومي ضارٍ، أشد تمسكاً بما حازوا عليه من سلطة ونفوذ وممتلكات، ما كان لها أن تتحقق على هذا النحو، إلا بغدر من حاربهم ست مرات، ثم انقلب على نفسه، وتحول إلى مطية لمن يصفون أنفسهم أنهم أنصار الله.