المغامرة الوطنية العاقلة

يمثل هشام غصيب حالة شبه متفردة في العطاء الفكري والتنوير العقلاني الذي يمارسه بوعي إنساني عميق منذ أكثر من عقدين على الساحتين المحلية والعربية، وهو أيضاً حالة متفردة في الموقف والعطاء يندر وجودها على مدى ثلاثة أجيال من المثقفين الذين شهدتهم الحياة الثقافية الأردنية؛ عنوان هذا التفرد الالتزام بالعطاء والموقف العقلاني التنويري المقاوم لخراب السائد، وفي الوقت نفسه رفض الانعزال، والثبات في الداخل، بل والمساهمة الإيجابية في الإنجاز، من دون أن تحوله ماكنة المؤسسة من مثقف برؤية عقلانية مغامرة إلى مجرد بيروقراطي يصنع قيده بيده كما حدث مع الكثيرين.

اضافة اعلان

في الحوار الممتع الذي أجراه الزميلان موسى برهومة ومهند مبيضين ونشرته "الغد" السبت الماضي، قدم غصيب رؤية تعيد التفاؤل بالتاريخ والقادم، رغم كل الهجاء الذي صبه على الواقع العربي والحياة الفكرية السائدة، ومرجع هذا التفاؤل هو النموذج الذي يقدمه هذا المفكر في التغيير من الداخل، وفي إيمانه العميق بما يفعله وإدراكه المتقدم للواقع.

ففي وسط أزمة التعليم العالي التي تخنق مؤسسات التعليم العالي في القطاعين العام والخاص، يدير الدكتور غصيب واحدة من أنجح جامعات العالم العربي والشرق الأوسط "جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا"، وهي جامعة وطنية غير حكومية وغير ربحية، ومتخصصة في تكنولوجيا المعلومات، وتعود ملكيتها للجمعية العلمية الملكية، واستطاعت هذه المؤسسة بما توفر لإدارتها من كفاءة ووضوح في الرؤية ان تقدم الأنموذج المعاصر لجامعات المبدعين الرشيقة القريبة من انشغالات العصر ونبض العالم، حيث حصلت الجامعة على المرتبة الأولى في امتحان الكفاءة لخريجي الجامعات في تخصصي علم الحاسوب وهندسة الحاسوب، ونجحت الجامعة بفضل هذه الإدارة العقلانية الخلاقة والمتمردة أيضا في انجاز سلسلة من المبادرات العلمية والمجتمعية من بينها الشراكة العلمية مع جامعات عالمية، وتأسيس حاضنات تدريب للطلبة بالتعاون مع شركات عالمية، بالإضافة إلى سياسات استقطاب الطلبة المتميزين.

كذلك الأمر بالنسبة لمركز وجائزة الملكة رانيا للريادة، يوفر الأول حاضنة أخرى للاستثمار في التكنولوجيا المتطورة، بينما توفر الجائزة حافزاً آخر للطلبة للابتكار والريادة وهما عنوان قوة المعرفة التي تتحكم برأس المال في هذا الوقت وتحدد مصير الدول والمجتمعات.

تأتي هذه القدرة المبدعة على الثبات والتكيف الإيجابي في بيئة شهدت استقالة المثقف من الساحة السياسية والثقافية، كما يصف، ومن الحياة العامة؛ حيث ترك المثقف العربي منذ زمن الشارع والجامعة والمؤسسة للسياسيين البراغماتيين قصيري النظر أو لرجال الدين؛ هناك فئة قليلة من مفكري التغيير في العالم العربي بغض النظر عن مشاربهم الفكرية ورؤيتهم للمجتمع والتاريخ والعالم يفعلون ما يفعله هشام غصيب في الأردن، في رفض تهميش المثقف والركون إلى العزلة، وعدم الاكتفاء بتفسير العالم من حوله بل ومحاولة  تغييره.

تبدو العلة الثقافية أحد أهم عناوين التغيير والإصلاح وتحقيق قفزة النهضة التي تحدثت عنها أجيال من المفكرين العرب على مدى أكثر من قرنين، وهذه العلة كما تبدو في وعي غصيب تتمركز في الآليات اللاعقلانية والاستبدادية والبيروقراطية التي تغيب الجماهير والمجتمعات، وتهدم قدرات الفرد من الداخل، وتحول الأوطان إلى دوائر مغلقة ومعتمة.

ولأن أنموذج الدكتور غصيب في الأردن، نلح على الحاجة المصيرية لكتلة تاريخية تحمل الدولة الأردنية وتدشن أنموذجا معاصرا لدولة وطنية في حدود الممكن؛ عنوانها نخبة مختلفة قادرة على إدارة التغير والإصلاح؛ أنها نعمة اجتماعية نملكها بكل ما تملكه من معرفة وطاقة  تشكل عجينة اجتماعية وسياسية تلتقي حول أهداف كبرى محكها المعرفة؛ هم أولئك الذين يشكلون مجتمع الكتلة التاريخية المنتظرة.

[email protected]