المقاتلون الأجانب والسياسة الأميركية: تعقُّب مراكز التجنيد لوقف التدفق

مقاتلان أجنبيان في تنظيم "داعش" - (أرشيفية)
مقاتلان أجنبيان في تنظيم "داعش" - (أرشيفية)
نيت روزنبلات؛ وناورين تشودري فينك* - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 26/4/2021 تضاءل الكثير من حماسة المجتمع الدولي للاستثمار في استراتيجيات أكثر فعالية لمكافحة الإرهاب بعد أن خسر تنظيم "داعش" خلافته الإقليمية. ومن خلال دراسة نمو مراكز التجنيد خلال سنوات خلافة التنظيم، يقيّم خبيران كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يحد من التجنيد في هذه المناطق ومعالجة المظالم المحلية. * * * نيت روزنبلات قبل خمس سنوات، هرب أحد مقاتلي تنظيم "داعش" مع أسرته مما تسمى بـ"دولة الخلافة" التابعة للتنظيم وعَبَر الحدود إلى تركيا. وقبل تخليه عن حياته المهنية كعنصر في وحدة الأمن الداخلي التابعة للتنظيم، سرق محرك أقراص "فلاش" من مكتب رئيسه وقدمه لاحقاً للسلطات الأوروبية مقابل حصوله على حصانة من الملاحقة القضائية. واحتوى ذلك المحرك على نماذج تسجيل لحوالي 3.500 مقاتل من مختلف أنحاء العالم، مما يجعله أكبر مخزن لبيانات التسجيل العلنية الخاصة بالتنظيم. وتكتسي البيانات قيمة خاصة بسبب خصوصيتها. فهي تكشف أن العديد من المقاتلين الأجانب جاؤوا من "مراكز" تجنيد محلية متفاوتة الحجم، تراوحت بين أحياء فردية في المدن إلى مناطق أكبر من البلد المعني. وكانت بعض هذه المراكز تقع ضمن تجمعات حضرية كبيرة، في حين كان يغلب الطابع الريفي على بعضها الآخر، وقد برزت منها جميعاً أعداد كبيرة من المقاتلين بشكل متفاوت. وفي الشرق الأوسط، وفّرت بعض المراكز التي تضمنت 11 في المائة فقط من إجمالي سكان المنطقة نحو 75 في المائة من مقاتليها الأجانب. وقد اختلفت العوامل التي دفعت بهؤلاء المقاتلين إلى الجهاد في سورية والعراق. فبالنسبة للكثيرين، فاقت الحوافز المالية المخاطر المرتبطة بالانضمام إلى تنظيم "داعش"، واعتقد آخرون بأن الانتماء إلى التنظيم سيحميهم من الجماعات المسلحة المنافسة أو السلطات المحلية. وكان العديد منهم يتبعون على الأرجح خطوات أحد أصدقائهم أو أفراد أسرتهم -على سبيل المثال، في أحد المراكز الواقعة في ضواحي تونس العاصمة، أشار 81 في المائة من المجندين المسجلين إلى أنهم كانوا يعرفون شخصاً واحداً على الأقل سافر إلى سورية للقتال. وهكذا، مع اتساع نطاق النشاط الجهادي في دولة الخلافة والمراكز التابعة لها على حد سواء، ازدادت أيضاً احتمالية انضمام المزيد من العناصر القادمين من أحد هذه المراكز إلى صفوف التنظيم. وبالمثل، كلما كان المركز أكبر حجماً، كان "داعش" قادراً على تجنيد أعضاء جدد بسهولة أكبر. وفي العديد من المراكز، هيمنت فيها عناصر التنظيم أو الأفراد التابعين له على جهاز الأمن المحلي، ولذلك غالباً ما كان الانضمام إلى التنظيم هو الخيار الأكثر أماناً للسكان. كما منح هذا التوغل التنظيم نظرة معمّقة مهمة إلى الشخصيات والشكاوى المحلية، ما مكّن الذين يعملون في التجنيد من تجميع دراسات حالة حول المقاتلين المحتملين واختيار الظروف الأكثر ملاءمة لتجنيدهم. وهناك العديد من السمات البارزة التي تميز المقاتلين القادمين من المراكز عن المقاتلين الذين لم يأتوا منها. أولاً، كان "مقاتلو المراكز" في المتوسط أصغر بثلاث سنوات من المقاتلين الأجانب الآخرين. ثانياً، كانوا أقل احتمالاً لأن يكونوا متزوجين أو لديهم أطفال. ثالثاً، كان نصفهم على الأرجح يتمتع بخبرة سابقة في مجال القتال في الخارج. وتشير هذه السمة الأخيرة إلى التهديد الخطير الذي تطرحه هذه المراكز: فهي ليست المحركات الرئيسية للتجنيد خلال الحملات الجهادية الكبرى فحسب، ولكنها شكلت أيضاً بوابة للجهاد الدولي عندما تراجعت حدة هذه الصراعات. وتجذب مراكز تنظيم "داعش" أعداداً غير متكافئة من المجندين إلى صفوف المقاتلين الأجان -وهم مسلحون معروفون بمفاقمتهم للصراعات في مختلف أنحاء العالم وإطالة أمدها. وقد لا يكون لدى العديد من هؤلاء الأفراد ساحة معركة للقتال فيها في الوقت الراهن، لكنهم ما يزالون يشكّلون تهديداً للسكان المحليين والأمن القومي الأميركي. لسوء الحظ، تضْمن الظروف الحالية داخل مراكز التجنيد وحولها تقريباً قدوم موجة مستقبلية من المقاتلين الأجانب. ويؤدي تدهور الآفاق الاجتماعية والاقتصادية والحريات السياسية في العديد من دول الشرق الأوسط إلى تفاقم الشكاوى وتقويض قدرة المواطنين على التعبير عن آرائهم من دون خوف من انتقام الدولة. وإضافة إلى ذلك، غالباً مما تؤدي كثرة الحروب الأهلية "المدوّلة" في المنطقة إلى إلهام الأفراد للتصدي للغزاة الأجانب والنظر إلى الصراعات على أنها معارك إيديولوجية. ومن ناحية أخرى، يؤدي الإحجام واسع الانتشار عن إعادة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم إلى قيام مجموعة من المجندين شبه المحترفين القادرين على الانتقال بين صراع وآخر. ومن خلال تخلّي الحكومات عن مواطنيها الذين انضموا إلى "داعش"، فهي تسهم بشكل غير مباشر في تكوين الموجة التالية. * * * ناورين تشودري فينك تضاءل الكثير من حماسة المجتمع الدولي للاستثمار في استراتيجيات أكثر فعالية لمكافحة الإرهاب بعد أن خسر "داعش" خلافته الإقليمية. ومع ذلك، فإن الوقت الحالي هو الوقت المثالي لتركيز الاهتمام والموارد على استراتيجيات الوقاية بدلاً من مجرد انتظار اندلاع الأزمة التالية. خلال فترات ذروة العنف الإرهابي، يتمّ إيلاء أهمية كبيرة لمسألة الإيديولوجيا كعامل محفز، ولكن يجب في الوقت نفسه تحليل بروز مراكز المقاتلين الأجانب، بما أنها تُظهر الدور الرئيسي الذي لعبه مجتمع المقاتلين. فعندما ينخرط أصدقاء وأسرة شخص ما في جماعة متطرفة، تزداد جاذبية الجماعة في نظره ويسهل عليه بصورة أكثر الانضمام إلى صفوفها. ويمكن لهذه الانتماءات والولاءات أن تتخطى العلاقات المباشرة والمحلية. وقد تعاطف العديد من المقاتلين، ولا سيما خلال الموجة الأولى التي أعقبت الانتفاضة السورية، مع أولئك المتواجدين في مجتمعاتهم المتصورة في الخارج الذين كانوا يتعرضون لضغوط هائلة. وساعدت هذه الدوافع على جذب مقاتلين من دول من خارج منطقة المشرق العربي، بما فيها أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. وثمة محفز قوي آخر والذي تمثل في وجود نساء وأطفال يبدون وكأنهم يمارسون حياتهم اليومية بشكل عادي في دولة الخلافة. وساعدت مثل هذه الصور في إضفاء الشرعية على سردية "داعش" بأن حكمه لم يكن مناسباً فقط لمقاتلي الصفوف الأمامية، بل ولعائلاتهم أيضاً. وكان ما يقرب من 20 في المائة من المقاتلين الأجانب من النساء. وعلى الرغم من أنه غالباً ما يتمّ تصويرهن على أنهن ضحايا عاجزات تمّ خداعهن للقدوم إلى "دولة الخلافة"، إلّا أنه كان لديهن العديد من الدوافع للانضمام إلى التنظيم مثل نظرائهن الرجال. وبطبيعة الحال، تمّ التلاعب بعقول بعضهن أو إرغامهن على السفر (والانخراط في التنظيم)، لكن البعض الآخر غادرن أوطانهن بسبب إيمان قوي بقضية التنظيم. ويسهم واقع أن العديد من النساء أظهرن ولاءً مستمراً للتنظيم، حتى بعد سقوط الخلافة، في الحفاظ على شرعية التنظيم. لوقف الموجة القادمة من المقاتلين الأجانب، على العاملين في مجال مكافحة الإرهاب القيام أولاً بتبديد الظروف التي تجعل مراكز التجنيد بيئة حاضنة للتطرف. وفي هذا الإطار، بإمكان الولايات المتحدة الاستفادة من شراكاتها المحلية والدولية لتعزيز التنمية وبناء القدرة على الصمود. لكنّ على المسؤولين، خلال قيامهم بذلك، توخي الحذر لعدم وصم هذه المراكز وعزلها بشكل أكبر، وهو أمر غالباً ما يحصل بسبب وصمة العار الماضية النابعة من صراعات عرقية أو طبقية أو قبلية. وسيتطلب ذلك التشاور مع الجهات الفاعلة المحلية التي تتمتع بالخبرة ومشاركتها النشطة والتي يمكنها تحديد مظالم المجتمع وكسب ثقته. وإضافة إلى ذلك، يمكن للشركاء في المجتمع المدني المساعدة على انخراط الأفراد الذين يشعرون بمثل هذه المظالم ومنحهم سبلاً موثوقة للعمل على صعيد الدولة أو الصعيد المحلي. ويمكن للدعم الدولي أن يكمّل المبادرات الأميركية. فقد نفذت الأمم المتحدة وهيئات أخرى استثمارات كبيرة في بناء القدرات، وينبغي توسيع هذه الجهود لتشمل حقوق الإنسان وتوفير خدمات أمنية تراعي الفوارق بين الجنسين. ويُذكر أن التعاون القانوني ضروري أيضاً، ليس فقط لوقف تدفق المقاتلين ومحاكمة الأطراف العنيفة، بل أيضاً لضمان عدم استغلال الدول لمهمات مكافحة الإرهاب من أجل قمع المعارضة السلمية. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون الشبكات الاجتماعية نفسها التي تغذي مراكز المقاتلين الأجانب جزءاً أساسياً من الحل أيضاً. ويزيد المجتمع المتماسك من احتمالية قيام صديق أو فرد مهتم من العائلة بمنع وصول الشخص إلى مرحلة التطرف. وبالتالي، من الضروري تقديم المساعدة لهذه المجتمعات حين تطلب ذلك. كما تسلّط عوامل مماثلة الضوء على أهمية إعادة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم وتحويل الانتباه إلى المساءلة والقضاء على التطرف. وعندما ترفض الدول إعادتهم، فإن ذلك يؤدي إلى تفاقم الشكاوى بين السكان الساخطين ويمكّن شبكات المقاتلين من تنظيم صفوفها في أماكن مثل مخيّم الهول للاجئين. وعوضاً عن ذلك، يجب السماح لعدد أكبر من الأفراد بالعودة، شرط خضوعهم لإجراءات التدقيق المناسبة الخاصة بتقييم المخاطر قبل إعادة دمجهم في مجتمعاتهم. ولن تحدد طريقة تعامل المجتمعات والحكومات مع هؤلاء العناصر السابقين في تنظيم "داعش" آفاق إعادة دمجهم الفردية فحسب، بل ستؤثر أيضاً بأماكن وطريقة إنشاء مراكز التجنيد في المستقبل. *نيت روزنبلات: مرشح لنيل درجة الدكتوراه في علم الاجتماع في "كلية نافيلد" في جامعة أكسفورد، وزميل "برنامج الأمن الدولي" في المؤسسة البحثية "أميركا الجديدة". *ناورين تشودري فينك: المديرة التنفيذية لـ"مركز صوفان". شغلت سابقاً منصب كبيرة مستشاري السياسات بشأن مكافحة الإرهاب والعقوبات في "بعثة المملكة المتحدة" لدى الأمم المتحدة.اضافة اعلان