المكاسب العربية من اتفاق إيران النووي

ربما يكون العنوان الأكثر شيوعاً، استناداً إلى الخطاب العربي السائد؛ رسمياً وشعبياً، هو "الخسائر العربية" المترتبة على الاتفاق الإطاري الأميركي-الإيراني الذي تم التوصل له أول من أمس، أو على الأقل "المكاسب والخسائر" معاً. لكن الحقيقة هي أنه لم يعد لدى العرب ما يخسرونه أبداً. فإيران تتغلغل، علناً وعسكرياً، في كثير من البلدان العربية. وقد نجحت فعلاً في إسباغ الطابع الطائفي على أزمات وصراعات العالم العربي. وهو واقع لم يكن ليتحقق، لولا ضعف عربي، رسمي وشعبي نخبوي، بلغ منتهاه، وكان من نتيجته طبعاً بحث الولايات المتحدة عن حليف جديد في المنطقة.اضافة اعلان
والحقيقة أن الإنجاز الإيراني-الأميركي الأخير، وبغض النظر عن العقبات التي ستعترض تسويقه في الداخل الإيراني والأميركي، هو ما يشكل الفرصة التي لم تُتح منذ عقود للبلدان العربية، لانتشال نفسها مما انتهت إليه الآن.
فمع توقيع الاتفاق النووي (الأولي)، صار رسمياً وعلنياً، بما لا يحتمل أي مجال للشك، أن الولايات المتحدة قد تخلت، ولو بدرجة كبيرة جداً، عن حلفائها العرب؛ تماماً كما أن إيران تخلت نهائياً عن محور "المقاومة والممانعة"، بعد أن انتهت مدة صلاحيته.
فالاحتفالات الإيرانية، الشعبية خصوصاً، التي أعقبت التوصل إلى الاتفاق، كما استقبال الأبطال لوزير الخارجية جواد ظريف (بعد السماح طبعاً بفوز حسن روحاني بالرئاسة)، يكفيان دليلاً نهائياً على أن الشعب الإيراني لم يعد يأبه بالشعارات الثورية المعادية لـ"الشيطان الأكبر"، بل العكس؛ هو يريد أفضل العلاقات مع العالم الغربي تحديداً، ولاسيما الولايات المتحدة. وإذ لم يعد الإيرانيون يطيقون العقوبات والعزلة، فكيف بحروب لا تعنيهم؟!
ثم إن أي تحرك إيراني عدائي تجاه إسرائيل، بالأصالة أو بالوكالة، وهو سيناريو أقرب للمستحيل، سيستدعي تدخلاً أميركياً وحتى غربياً غير مسبوق، كونه سيُعتبر بمثابة تأكيد لتحذيرات نتنياهو، الكاذبة فعلاً، بأن الاتفاق النووي مع طهران يمثل تهديداً وجودياً لإسرائيل.
ومع انتهاء ذريعة "المقاومة والممانعة"، إيرانياً وعربياً، والتي شوهت حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية عقوداً، فلا يكون ثمة مناص من اعتراف الجميع، بلا استثناء، بما بات مكشوفاً منذ أمد، وهو أن ما تفعله إيران في غير بلد عربي، ليس إلا تمدداً استراتيجياً إيرانياً قومياً بغطاء طائفي، يأتي بداهة على حساب الدول العربية، وكل هوية جامعة فيها ولها؛ أكانت القومية العربية التي ما تزال تدغدغ أحلام البعض بافتراض أشد درجات حسن النية، أو الهوية الوطنية/ القُطرية الأضيق، والعراق نموذج مثالي هنا.
لكن المسؤولية الأكبر لاستدراك الاستباحة الإيرانية والتخلي الدولي لا تقع على عاتق النخب "العربية" التي طالما دافعت عن إيران على حساب العروبة والدولة الوطنية، لاسيما مع تزايد انحسار تأثير هذه النخب منذ اندلاع "الربيع العربي" الذي أظهر للمواطنين العرب مستوى الازدواجية الطائفية في مواقف طهران وأتباعها في المنطقة من الثورات العربية. العبء الأكبر هنا يقع فعلياً على الدول العربية التي لم يعد بإمكانها إلا التخلص أيضاً من تشوه آخر حمته علاقة التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة والاطمئنان إلى حمايتها غير المشروطة، ويتمثل في التلكؤ في إنجاز بناء دولة المواطنة الكاملة للجميع. فمن هذه الفجوة الكبرى دخلت إيران عواصمنا لتحقيق مآربها، وبحجم هذه الفجوة ذاتها نأت الولايات المتحدة بنفسها عنا على حساب كل مصالحنا.
جيد أن نقف الآن أمام أنفسنا وحيدين ربما، وبلا محسنات/ تشوهات. لأن إصلاح الخلل الذي لم يعد ممكناً تجاهله، ليس يكون إلا بأيدينا.