المناهج التعليمية وآفة الاستقطاب

سهام ملكاوي

تحولت المناهج إلى قضية رأي عام. ولا ينبغي أن تكون كذلك. إذ لا يجب أن تخضع لردود أفعال عاطفية وانفعالية، ولا حتى لأي شكل من أشكال ردود الأفعال. فلا يجب أن يتصدى لها إلا أهل الخبرة والمختصون. فيما من المعيب أن تتم الاستجابة لردود أفعال غاضبة لهذا السبب أو ذاك، أو لأي فئة مؤدلجة تسعى إلى تمرير مشروعها الخاص، بغض النظر عن المصلحة العامة، أو مصلحة النظام التعليمي المتهالك، ابتداء من الروضة وحتى الدراسات العليا. والمأمول أن تمتلك اللجنة التربوية الموكول إليها الأمر، القرار بعيدا عن الإكراهات المجتمعية بمختلف أطرافها.اضافة اعلان
لقد رصدت منذ بداية السجال ما يدور، بمنتهى الموضوعية، وبعيدا عن الهوى أو أي اتجاهات مسبقة، ومن واقع ميدان عايشته لما يزيد على عقود ثلاثة. ذاك السجال الذي اتخذ شكل الاستقطاب، وكأن المسألة تكسير عظم وإثبات وجود!
ويمكن تصنيف المحتجين إلى فئات تندغم في فئتين، تحاول كل منهما استقطاب الرأي العام.
الفئة الأولى، ذات مرجعيات إسلامية سياسية لها أجنداتها الخاصة، التي تهادن بعضها مرحليا، وتنقلب من ثم على نفسها إذا ما نجح مشروعها المرحلي. وهذه الفئة/ الفئات تعمل على تجييش أكبر عدد من الأصوات الجاهزة للانطلاق بدوافع عاطفية.
أما الفئة الثانية، وهي تمثل تيارا اجتماعيا واسعا، فليس لها أي أجندات خاصة. وتمثل تيارا غالبا في مجتمع يميل بطبعه إلى التدين، كما هي الحال في المنطقة عموما. ويمكن استثارة هذه الفئة إذا ما أوحي إليها أن الدين في خطر، وأن هناك مؤامرة لتنحيته عن الحياة... إلخ. هذه فئة مستلبة وهي أيضا مستقلة القرار والتفكير. وهي لا تثق بالإجراءات الحكومية وتتشكك في النوايا. تتلقى الأفكار وتنفعل، من دون تمحيص أو قراءة ناقدة، لذلك يسهل تجييشها وشحنها.
الفئة الثالثة تمثل قلة ممن يغارون على المجتمع وعلى الجيل. بعضهم/ هن عمل في مجال التربية أو التدريس الجامعي، وهالهم ما جابهوه من ضعف الطلبة بما يشبه الأمية، في مجال المعرفة وفي المجال السلوكي، وبصورة خاصة في المجال اللغوي. لذلك حاولوا التنبيه والتحذير من الخطر المستفحل والمتعاظم مع الأيام. وهذه فئة ليست ذات أجندات أو خلفيات أيديولوجية، قد يكون بعضهم متدينا وقد لا يكون. إنما الهدف الأساس لديهم هو الارتقاء بمستوى النشء، وإصلاح الخلل أينما وجد.
أما الفئة الرابعة، فهي فئة/ فئات ذات أجندة خاصة تسعى إلى تغريب الثقافة والمجتمع، وتقف في حالة صدام مع الفئة الأولى، بل وتسعى إلى القطيعة مع التراث الذي تحمّله مسؤولية التخلف الاجتماعي والقومي.
المشكلة أن الجميع يحسبون أنهم يحسنون صنعا! لكن هناك أسئلة مهمة تجب الإجابة عنها، حتى لو ادعى بعضهم أن تلك المناهج هي التي خرجت الجميع: هل هناك مشكلة في مخرجات التعليم تنذر بالخطر؟ هل المناهج التي يدافعون عنها تُكسب المتعلمين الاتجاهات الإيجابية في الحياة وفي العمل؟ هل اكتسب المتعلم حسن الانتماء إلى قيم الإسلام؟ ألا يلاحظ أن الإسلام لديهم مجرد تعصب وممارسات طقوسية وشكلية، فلم تقدم تلك المناهج إلى الحياة العامة أشخاصا مميزين سلوكيا أو علميا أو فكريا، بل هم أجهزة تسجيل صماء تعيد ما وقع على مؤثراتها من دون إضافة؟ أليس الناتج هو مجرد رقم يتكرر بالنسخة ذاتها؟ هل اكتسب الأردني حسن الانتماء إلى الأردن؟ أين هي الرموز الأردنية التاريخية التي يجب أن تبرز أردنيا منذ أعماق التاريخ، كميشع أو الحارث أو يحيى الكركي، أو في التاريخ القريب مثل مشخص الكركية وغيرها كثيرات وكثيرين؟
مجرد إشارات خاطفة لعديد من نماذج التمثل التي تسند شخصية المتلقي وتمكنه من تطوير بنية نفسية، ذات تقدير عال للذات، بدل الشعور بالدونية الذي كرسه النظام التعليمي والإعلامي وبات يردده الأردنيون وغيرهم من دول الجوار! إذا كنت تدين نفسك فلم لا يدينك الآخرون؟ وحتى حين تم تدارك مشكلة الانتماء، تم الأمر بصورة فجة، وبدا أن هناك تقديما للذات لا يتناسب مع الظرف التاريخي. وهو ما يحتاج إلى مناقشة لا تحتملها هذه السطور.
واستكمالا، أين هي الرموز العربية والرموز الإسلامية والرموز الإنسانية لتتكامل شخصية المتعلم وتتحدد هويته الذاتية؟ لماذا يتم النقاش دائما في مختلف المسائل في أطر استقطابية متناحرة؛ الوطني والمدني ضد الديني، والقومي ضد الإسلامي.. إلخ؟ لماذا برزت ظاهرة العنف الطلابي والمجتمعي؟ لماذا تفاقمت ظاهرة التنمر في المدارس وحتى في الشوارع؟ لماذا تضخمت ظاهرة التحرش، خاصة لدى الطلاب، حتى في الحرم الجامعي؟
من الواضح أن التنشئة الاجتماعية تعاني اضطرابا وتحتاج إلى ثورة تربوية لتصحيح المسار، لا أن يتم سلق التغيير استجابة لمتطلبات لحظية. وربما ساهم معلمون فيما مضى بسد ثغرات المناهج، لكن كثرة الأعداد وسوء حال المهنة، أديا إلى عزوف الكثيرين عنها. وتم سد الحاجة بمعلمين غير مؤهلين. فالشهادة الجامعية لا تؤهل حاملها لمهنة التعليم، ما فاقم من حالة التردي السائدة.
لم يحالف التوفيق القائمين على تطوير المناهج، وتمت مقاربة القضية بطريقة لا تخلو من ارتجالية، ومتزامنة مع تغيرات في دول مجاورة، مما شكك في النوايا وفتح المجال للتكهنات والاستنتاجات، وسمح لكل أن يدلو بدلوه، من دون أن يكون مؤهلا، حتى لو كان معلما أو عاملا في وزارة التربية أو حتى في قسم المناهج.
إن الكتاب المدرسي والمنهاج والفلسفة التربوية برمتها، وكيفية ترجمتها إلى المجال التداولي، كلها مسؤولة عن تكوين الهوية لدى الفرد والجماعة، وتطوير شخصيات إيجابية سوية منسجمة مع ذاتها ومع مجتمعها وحتى محيطها العربي القريب ومحيطها الإنساني الأشمل. ولنا فيما يحدث حولنا خير مثال على اضطراب الهوية وتفككها أمام أول هبة ريح! لذلك، فإن المسؤولية عظيمة، وهي أمانة في عنق من توكل إليه. وهي تحتاج إلى آلية ذكية لإدارة عملية التغيير تقنع المتلقي أنها نابعة من قرار ذاتي وليس إملاء خارجي.
ستزداد حدة المزايدات والاستقطابات، خاصة مع محاولات النواب التطرق لقضية المناهج كقضية عامة، وإثبات وجودهم  وإرضاء قواعدهم، بغض النظر عن مدى درايتهم بموضوع حساس كهذا. والخشية أن يخضع المقررون لحكم الضرورة ويكون المنهاج والكتاب المدرسي والمتعلم ومن ثم المجتمع، هم الضحية.