المنهجية قبل العقيدة في معالجة التشدد

أطفال خلف الأسلاك في مخيم الهول شمال شرق سورية - (أرشيفية)
أطفال خلف الأسلاك في مخيم الهول شمال شرق سورية - (أرشيفية)
حسن منيمنة* - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 15/7/2020 في التعقيب على مقال شورش خاني حول مخيم الهول الذي نشر في هذا الموضع مؤخراً. لا شك في أن دعوة شورش خاني لإيلاء المزيد من الاهتمام للوضع في مخيم الهول مهمة ومقنعة. يبدو أن أصحاب القرار في العواصم العالمية قد اطمأنوا إلى فكرة اندحار تنظيم "داعش" وتراخوا بشأن مخلفات القضية في مخيم الهول. والمطروح اليوم هو إشراك المحكمة الدولية، والتوقع هو أن جهوداً سوف تبذل في سبيل تخفيف التشدد الذي استقر في نزلاء المخيم. وإذا كان الهدف هو إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة، فيبدو أن التوجه هو اعتبار أن المهمة قد أنجزت. لكن المسألة تتعدى تنظيم "داعش". من بوكا في العراق، إلى باغرام في أفغانستان وصيدنايا في سورية، تأكد دور معسكرات الاعتقال الجماعية كحواضن للتشدد والإرهاب. وكان "الخليفة "المزعوم السابق لتنظيم "داعش"، أبو بكر البغدادي، والذي قتل في غارة أميركية في تشرين الأول (نوفمبر) الماضي، قد انخرط في شبكة الجهاد المتشدد في سجن بوكا حيث اعتقلته القوات الأميركية. وليس من المبالغة القول إن "دولة الخلافة" تمت صياغتها في المعتقل. والعديد من قادة الفصائل الجهادية في سورية هم من خريجي سجن صيدنايا سيئ السمعة، بل وتفيد التقارير بأن نظام دمشق قد أفسح المجال أمام قيام شبكات المتشددين، بل ربما دفع في هذا الاتجاه، في سبيل الاستثمار في المراحل التالية. لا شك أن الموارد المناسبة يتم رصدها لهذه السجون والمعتقلات لاحتواء مؤشرات الخطر وتطويقها، بما في ذلك الجهود الاستخبارية الكفيلة بجمع المعلومات عن المساعي الإرهابية وإحباطها. غير أن الدرس الأول المستفاد من تجارب الحشد البشري هذه هو أن النتيجة الإيجابية المبتغاة؛ أي تعطيل الإرهابيين المتحققين والمحتملين، تقابلها نتيجة عرَضية سلبية تستنزفها، وهي تعزيز التواصل والتشدد والاندفاع في صفوفهم. إذا ما قورنت حالة مخيم الهول بأحوال معسكرات اعتقال بوكا وباغرام وصيدنايا، سيكون من الواضح أن الهول ينطوي على قدر أكبر من نقاط الضعف، وأقل من نقاط القوة. تعاني وحدات قوات سورية الديمقراطية التي تتولى حراسة المخيم من شح نسبي في العتاد والأدوات، كما أنها تعاني من الإحباط والاستنزاف نتيجة ما تعتبره تخلياً من الولايات المتحدة عن دعمها إثر الانسحاب الأميركي المفاجئ العام الماضي. ومن جهة أخرى، فإن أعداد نزلاء المعتقل، وجلّهم من النساء والأطفال، مرتفعة وإمكانية الاستقصاء في أوساطهم محدودة والسيطرة عليهم صعبة. ومما يفاقم الوضع القائم، أن المعتقل يقع في ناحية يتعاطف العديد من أهلها مع المعتقلين، ويتعاملون مع قوات سورية الديمقراطية بالحد الأدنى، وبغيظ مكبوت. ويبدو من جوانب عدة وكأن مخيم الهول ليس معتقلاً بقدر ما هو أرض خاضعة للاحتلال، والتي يعمد سكانها إلى "المقاومة" بأفعال رمزية (وأخرى مادية)، من رفع علم لـ"داعش" يحيكونه محلياً، إلى إطلاق الشتائم على دوريات قوات سورية الديمقراطية داخل المخيم. وكان لا بد من غضّ النظر عن "السوق السوداء" التي تنشط داخل المخيم لسد العوز في احتياجاته، غير أن ذلك ساهم في تمكين شبكات تهريب للبضائع والأشخاص، وغيرها من العمليات الخفية. إذا كان تنظيم الدولة قد تهاوى كبنية قيادة وسيطرة، ولم يعد في موضع مد يد العون والدعم لسكان المخيم، فإن "نساء الدولة الإسلامية" داخل المخيم، بما يصنعنه من تكوين جهاز للحسبة وفرض للحدود، يشهدن على القوة المستمرة للصيغة الجهادية المتشددة كمنهجية متنقلة. بالتوافق مع المقاربة التي اعتمدها وطبقها تنظيم "داعش" في كافة الأراضي التي كانت خاضعة له، تبدو مسألة العقيدة محسومة، وليست موضوع بحث أو نقاش. ويجري استيعاب الأفراد بالتالي من خلال التركيز على الطاعة العملية: الشعائر، الاستثمار بالأفعال عبر البذل والتكرار، والتوريط الاعتيادي. والحصيلة هي أن اندراج الفرد في الإطار الصارم يصبح تلقائياً ويتعزز ويتواصل بذاته. وقد زالت "الدولة الإسلامية" من حيث هي قيادة ومؤسسات لكنها ما تزال حية من حيث هي منهجية في مخيم الهول. وكان احتمال الاندحار، مع إمكانية العودة من خلال اعتماد التشدد والقطعية، شيئاً لاحظه المنظّرون الجهاديون. وتتضاءل أهمية الانبعاث المتجدد للتنظيم في حال نجا النظام الديني الشمولي واستمر وسط فرقة تتمسك به إلى حين قيام جديد لـ"الدولة الإسلامية". وعند اعتبار الأوضاع القائمة في مخيم الهول اليوم، يبدو من الصعب إيجاد ظروف أكثر ملاءمة لهذا المسار. أي أن الانتهاء من سيطرة دولة الخلافة المزعومة على الأراضي والولايات، وقصم ظهرها وقتل قادتها وإسقاط رايتها، ومطاردة من موّلها وتعامل معها، هي أوجه ضرورية، ولكنها ليست كافية لاعتبار أن الانتصار قد تحقق عليها. بل هناك تقاعس عالمي عن أداء الواجب، عائد إلى قصر نظر من دون عذر وإلى استرخاء وتفريط، في إلقاء مسؤولية اعتراض القيام المتجدد للإرهاب على عاتق وحدات قوات سورية الديمقراطية، بما هي عليه من سوء في التجهيز والذي لا يعوّضه حسن نواياها. وفي حين أن مخيم الهول هو خطر داهم وواضح للاستقرار في الشمال الشرقي السوري، فإنه أيضاً خزّان متجدد للبشر والصور للموجة القادمة من الجهاد العالمي الإرهابي. ويبدو أن الكلفة الفورية، مالياً وسياسياً، هي ما يعترض الإقدام على الحل المنطقي لهذه الحالة، أي تفكيك المخيم، إلى المقومات التي تعكس مسؤوليات المعنيين المباشرين، بما في ذلك الدول التي جاء منها الجهاديون الأجانب وأسرهم. وعوضاً عن ذلك، يبدو أن أصحاب القرار في العالم قد اكتفوا بالتلويح بدور لم تنضج تفاصيله بعد للعدالة الدولية. إن الحاجة ماسة إلى إعادة موازنة فورية للترتيبات في المعتقل. وتستحق وحدات قوات سورية الديمقراطية المزيد من المعدات والتدريب والتمويل حتى تتمكن من إدارة مخيم الهول بطريقة مناسبة. ويتطلب المخيم من حيث المبدأ مراجعة لجعله معتقلاً مؤقتاً وحسب، إلى حين تبين الحلول الأفضل، بدلاً من أن يستمر على وضعه القائم، كأرض محتلة تواجه احتلالاً دائماً مرتبكاً. المعضلة الحالية هي أن الحكمة السائدة تقضي بتحرير المعتقلين، أي النساء والأطفال، من قبضة التشدد قبل إخراجهم من المعتقل، في حين أن بقاءهم في المعتقل هو في واقع الأمر العقبة الأولى أمام تحقيق هذا التحرير الفكري. والأصح، على الرغم من التعارض الظاهر مع الحكمة السائدة، هو اعتبار التشدد الفكري فرعاً مشتقاً من التشدد السلوكي القائم داخل المخيم، وليس العكس. وسيكون إخراج العائلات من المخيم هو الخطوة الأولى لتوفير فرصة لهم للانعتاق من قبضة التشدد. وكلما طال بقاؤهم في المعتقل، تضاءلت إمكانيات نجاحهم في التخلص من المنهج والعقيدة وما يليهما من إرهاب، وزاد الخطر الذي سيترتب على العالم ككل أن يواجهه. *محرر مساهم في منتدى فكرة ومدير مؤسسة بدائل الشرق الأوسطاضافة اعلان