"المهمة أُنجزت"..!

لم يقتصر سوء حظ الأجيال العربية الحالية على مشاهدة الكارثة في فلسطين أو معايشة آثارها المدمرة فحسب. لقد شهدت أيضاً تدمير العراق، وسورية، وليبيا واليمن، بالإضافة إلى النكسة الحضارية والثقافية والنفسية والعسكرية لكل العالم العربي بلا استثناء. فبعد نهضة واعدة بعد رحيل الاستعمار المباشر، حين شرع العقل في التحرر والانفتاح على المعرفة والتثاقف والأفكار، سرعان ما انتهى شهر العسل القصير ومُني المشروع النهضوي العربي بالهزيمة وتم التراجع عن التقدم الذي تم إحرازه لتغرق المنطقة كلها في أزمة هوية ومعرفة. لا يمكن إنكار العوامل الذاتية التي تأخذ العرب إلى هذه النتائج. ثمة عيوب أساسية لا بد أنها تسهل للأطراف الداخلية والخارجية استغلال شعوب المنطقة وتعميق تناقضاتها وجوانب قصورها. لكن القوى النافذة التي ترتب العالم لضمان هيمنتها لا تساعد أيضا. وعند ذكر هذه القوى وما تفعله بالعرب، لا بد أن تأتي الولايات المتحدة إلى المقدمة. قبل أيام، نشر دانيال ر. ديبتريس، زميل «أولويات الدفاع»، والكاتب في مجلة «نيوزويك»، مقالا دعا فيه إلى سحب القوات الأميركية من العراق. وتستحق الأسباب التي يقيم عليها دعوته التوقف عندها لأنها تلخص خطاب تدخل بلده في بلداننا. «تستطيع إدارة بايدن أن تسحب القوات الأميركية المتبقية في العراق ورأسها مرفوع عاليا»، يقول ديبتريس. «فالمهمة التي سعت واشنطن إلى إنجازها -القضاء على الخلافة الإقليمية لداعش- قد انتهت». يُردد هذا صدى عبارة «المهمة أُنجزت» المكتوبة على يافطة عُلِّقت فوق رأس جورج دبليو بوش على حاملة الطائرات «يو إس إس أبراهام لنكولن» في 1 أيار (مايو) 2003، حين أعلن نهاية العمليات القتالية الرئيسية لاحتلال العراق. ومنذ إنجاز تلك المهمة، لم يرَ العراق ولا دول المنطقة العربية وشعوبها خيراً أبداً. كانت الفوضى العارمة في العراق والإقليم، ومنها ظهور «داعش» والميليشيات الطائفية، وجعل الصراع الطائفي العنوان الذي يمزق المنطقة ويُنهك دولها وشعوبها ويُسقط ما لا يُعد من الضحايا، هي المهمة التي أنجِزت. بل إنها في الحقيقة مهمة زاحفة لا تنتهي، يجري فيها التعامل مع أي متغيرات ترى الولايات المتحدة أنها تهدد هيمنتها على العرب أو تهدد وكيلها في المنطقة، الكيان الصهيوني. وتستدعي المهمة في بعض المراحل إجراءات متطرفة، مثل التدخل العسكري المباشر والاحتلال. وكانت نتيجة الأجزاء الأخيرة من المهمة تدمير أربعة بلدان عربية وإعادتها مئات الأعوام إلى الوراء، وإرعاب البقية، وتهيئة الأرضية لتطبيع الكيان الصهيوني من موقع ضعف العرب، وعلى حساب كرامة الشعوب ومصالحهم ومبادئ العدالة والإنسانية، وإدخال المنطقة كلها في نفق مظلم من الصراعات المحلية والإقليمية التي لن تنتهي في أي وقت قريب. الآن، أنجزت الولايات المتحدة، برأس مرفوع، مهمة تحجيم «داعش»، ويجب أن تخرج من مستنقع العراق الذي صنعته حتى لا تتكبد الخسائر. ويجب أن تغادر سورية أيضا بعد أن فعلت كل شيء لإغراقها في الفوضى، ولم تكن خلاصة تدخلها في البلدين أي شيء يخدم شعبيهما–لا ديمقراطية، ولا كرامة، ولا صيانة للمقدرات وسبل العيش، ولا تاريخ ولا حياة قابلة لأن تُعاش. يكتب ديبتريس: «لا يعني هذا أن العراق سيرى السلام والازدهار في أي وقت قريب. ما يزال البلد مجزأ للغاية عبر الخطوط الطائفية والمناطقية. وأصبحت نفس الميليشيات الشيعية العراقية التي اعتمدت عليها بغداد في وقت مبكر من الحرب لدعم حملتها ضد «داعش» أكثر ثراءً وقوة مما تريده الحكومة العراقية». و»يعاني الاقتصاد العراقي من عجز ومن تخلف متكرر عن سداد فواتير الكهرباء. وقد تراجع الاقتصاد العراقي بنسبة 10 في المائة العام الماضي». وبطبيعة الحال، لا يأتي الكاتب على ذكر دور بلده في رسم الصورة التي يصفها. بل إنه يقول صراحة: «ومع ذلك، لا يمكن للجيش الأميركي أن يحل أيا من هذه المشاكل الداخلية -ولا ينبغي للعراقيين أن يتوقعوا أن من الجيش الأميركي أن يحلها». مع ذلك، يُسوَّق التحالف مع الولايات المتحدة على أنه ميزة. كيف لا وهي ترسل جيشها لتصفية «داعش»، أو لتحرير السوريين والعراقيين من أنظمتهم المحلية، أو لتحمي العرب من القوى الإقليمية المستأسدة عليهم –ما عدا الكيان بطبيعة الحال؟ وهناك الذين يروّج، والذي يشتري. والذي لا يشترى برضاه، يُستوفى منه غصبا ثمن السلعة الفاسدة التي يرفضها. هكذا تنجز المهمة.اضافة اعلان