المواطنة جوهر النماء والانتماء

عبد الله كنعان* المواطنة في جوهرها ايمان وسلوك يدفعان الفرد دائماً نحو المزيد من العطاء والبذل والتضحية في سبيل وحدة المجتمع ونهضته، باعتبار الفرد مهما كان دينه ولونه وجنسه فإنه يتمسك بأهداف وآمال هذا المجتمع، ففي المجتمعات الإنسانية قديماً وحديثاً كانت المواطنة - وإن لم تظهر كمصطلح إلا حديثاً- ركيزة ومتطلبا أساسيا للبقاء والنماء، ويمهد الانتماء الحقيقي عند الفرد والجماعة لبناء الدولة وتطورها في كل المجالات، فالمشاركة الفردية من شأنها تعزيز مفهوم المواطنة لدى الفرد مهما كان مركزه وعمله وشعوره بأهميته داخل مجتمعه باعتباره عنصراً منتجاً وفعّالاً الى جانب وعيه بما يقع عليه من واجبات وما له من حقوق، وهنا فقط تكون المواطنة حاضنة للانتماء والعدالة واحترام القانون وسيادته . وقد وضع العديد من المفكرين الانتماء للوطن بمستوى حالة الانتماء للمعتقد، فكلاهما يعبران عن هوية وشخصية ذاتية وحضارية مهمة، حيث يكون الفرد من خلالهما متمسكاً بقيم ودوافع وحوافز تزيد من درجة شعوره بضرورة الاخلاص لما ينتمي اليه، كما يتحقق لديه الشعور بالأمن والأمان وتتعزز لديه الثقة بقيمة وحالة المواطنة التي يجتهد في تطبيقها. وأجدني اليوم أتعمق بمدلولات مفهوم المواطنة بعد الاستماع والتمعن والتحليل في أبعاد ومضامين كلمة ومداخلات صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال حفظه الله في أعمال مؤتمر (المواطنة الحاضنة للتنوع في المجال العربي : الاشكالية والحل )الذي عقده منتدى الفكر العربي بتاريخ 11-8-2020م، والذي يرأسه سموه، إن كلمة ومداخلات سموه كعادته في أي حوار ونقاش عميقة جامعة لم تغفل بعداً الا ورصدته وعالجته بالبحث والتحليل والاستنتاج. فقد جاء هذا المؤتمر في وقت يعاني فيه عالمنا العربي حالة من التراجع والمعاناة بسبب الضغوط والتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وربما كانت الحالة السياسية عند الأشقاء في العراق واليمن وسوريا وفلسطين المحتلة وليبيا ولبنان الذي تراكمت جراحه وآخرها الحريق الاليم الذي حدث في ميناء بيروت، الأمر الذي تسبب بقتلى وجرحى وتشريد الالاف وتدمير البيوت والاقتصاد، وهنا أقتبس مما قاله سمو الأمير الحسن عن لبنان : (( عند زيارتك لبنان وعاصمتها بيروت تشعر أنك جزء منها فهي قبلة كل محب للتاريخ والفكر والقانون والتعدد والتسامح والتنوع، فتحت صدرها لكل محتاج، القضية الفلسطينية والقدس أول قضاياها، لذا كان الموقف الأردني الداعم بإرسال المستشفى الميداني الاردني وبتوجيهات من جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله، إننا مدعوون نحن العرب ألا نترك بيروت بوابة الشرق ومنارة العرب في نكبتها))، إن كلمات سموه العميقة هذه، في حقيقتها برهان لنا أن المواطنة الفاعلة الجامعة للتنوع والمجاميع الثقافية والاقتصادية وغيرها، هي النموذج المطلوب والعلاج ربما الوحيد لما نحن فيه من واقع عربي وانساني مؤلم، فالمواطنة كما قال سموه :" ليست صفة تضاف لواقع اجتماعي قائم بل هي حقيقة الوضع القائم وجوهر وجوده". لذا فليس من المعيب إن أردنا النهوض والنهضة أن نعترف بالنقص الذي يعتري سلوكياتنا ومنطلقاتنا حتى نبني عليها بُغية التطور، وعلينا جميعاً أيضاً في الوقت نفسه الايمان بأن النقص في الاحتياجات والمتطلبات على اختلاف درجات ضرورتها ليس سبباً أو مبرراً على الاطلاق للمرء أو لغيره من التعرض لقيم المواطنة التي تدعو لسيادة القانون والنظام، وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية، وهنا يجب بالتذكير أن العقد الاجتماعي يشير أن الدولة بعلاقتها مع المواطن ومن خلال القانون هي الحاضنة لذلك التفاهم والوفاق، وعليها وبالتشارك مع مؤسسات المجتمع المدني تفعيل وتمكين المواطنة والأهم بناء الثقة مع المواطن بغض النظر عن رأيه وموقفه، هذا التمكين الذي يحتاج الى التخطيط، وكما يقول سموه يحتاج الى بناء قاعدة معلومات تمكن من اتخاذ القرارات الاستباقية والوقائية لمواجهة ما نتعرض له من كوارث مثل كورونا وغيرها. وهنا استذكر باختصار بعض الحوارات والمنطلقات الخاصة بالمواطنة التي نادى بها سمو الامير الحسن بن طلال فقد بيّن سموه مفهوم ومضامين المواطنة في ندوة (المواطنة في الوطن العربي) التي عقدها منتدى الفكر العربي في الرباط بتاريخ 21- 22 /4/ 2008م حيث أشار سموه إلى أن المواطنة الكاملة هي التي تُراعي البعد الانساني والبعد الديمقراطي (تأكيد مفهوم التشاركية) والبعد البيئي (الانتماء للارض وحمايتها)، والبُعد القانوني والدستوري (احترام القانون(، وبعدها بعقد وفي ندوة بعنوان (أعمدة الأمة الاربعة) بتاريخ 22/8/2018م، أعاد سموه تأكيد ضرورة الايمان بالتشارك مع الآخر في مناقشة هموم الامة، والاعتراف بالتعدد، والعمل على احلال ثقافة الحوار والنقاش . وتجدر الاشارة الى أن سموه دائماً وخلال ندوات المواطنة وغيرها، يُشير الى وجود دروس ومسارات تاريخية كانت تتضمن سابقة مفيدة، يمكن البناء عليها والاقتداء بها، باعتبارها خلفية تاريخية انسانية تُعطينا الأمل والثقة بقدرتنا على تجاوز المشكلات، وقد دعا سموه في أكثر من مناسبة ومقابلة إلى امكانية إعادة إحياء "إتفاق هلسنكي 1975م"، الذي نادت به بعض الدول في أوروبا لضمان تحقيق الأمن والتعاون في القارة الأوروبية وإيجاد حلول للأزمات والمشكلات القائمة بينها، قاصداً سموه بهذا الطرح الدعوة لتبني مسار متكامل للأمن الإنساني السياسي والاقتصادي والثقافي في مجتمعنا وغيره من المجتمعات الإنسانية. ومؤخراً في مؤتمر المواطنة الحاضنة للتنوع في المجال العربي، فإن سموه يدعو إلى امكانية عقد "ويستفاليا عربية "، على غرار معاهدة وستفاليا التي كانت عام 1648م، بين الدول الأروبية لانهاء ما يعرف بحرب الثلاثين عام، والأهم أن هذه المعاهدة أدخلت إلى أوروبا نظاماً مبنياً على مبدأ سيادة الدول، قاصداً سموه بذلك اعتماد مسار تكاملي أيضاً من شأنه تعزيز التعاون والألفة والوحدة بين أبناء المجتمع العربي على اختلاف مكوناته، لذا فإن الايمان بحقوق الانسان وفكرة الوحدة والتكامل العالمي واحترام الهويات الفرعية، هي سمات واضحة في الفكر الهاشمي لسمو الأمير الحسن بن طلال، المتجذر في دستور الملك فيصل في سوريا عام 1920م، والذي تضمن مبادىء الحرية والتشاركية والعدالة، ومشروع النهضة العربية للشريف الحسين بن علي، حيث ورث وجسد بعده الهاشميون أهداف وغايات هذا المشروع الرائد ، مستندين في ذلك الى وعيهم العميق لدور المشرق في حمل لواء النهضة والنماء الإنساني، وهو ما أشار إليه سمو الأمير الحسن بن طلال في مقاله المنشور في صحيفة العرب اللندنية بتاريخ 20 /8/2020م بعنوان : " المشرق تعزيز للجوامع بعيداً عن الفوارق"، فبقدر ما يحتوي المشرق على عوامل القوة والتطور، إلا أنه في الوقت نفسه يحتاج الى إرادة راسخة تجاه بناء عقد اجتماعي، من شانه أن يجمع أبناء المشرق ويعزز ثقتهم بأنفسهم و يمدهم بارادة العمل والعطاء العالمي. إن ترسيخ الشعور بالمواطنة وتطبيقها والعمل بها من قبل الفرد في كل سلوك أو نشاط يقوم به مهما كان نوعه، يتطلب منا جميعاً إعادة النظر في منظومتنا التربوية والتعليمية وتحديداً تجاوز مواطن الضعف في آلية تطبيقها وتنفيذها لتؤتي ثمارها وتكون سبيلاً لتمكين جميع أفراد المجتمع، وفي هذا الاتجاه عمل سمو الأمير الحسن بن طلال في ثمانينيات القرن العشرين على تشكيل لجنة للتطوير التربوي مختصة بإعادة تقييم عملية التعليم ورفع توصياتها بهذا الشأن بعد مسح ميداني لجميع انحاء الاردن، حيث كلف الاستاذ الدكتور علي محافظة مقرراً لهذه اللجنة، كما شرفني سموه آنذاك بأن أكون منسقاً لهذه اللجنة، وعلى اثرها نفذت العديد من الخطوات مثل انشاء كليات التربية في الجامعات الرسمية معنية بتأهيل قيادات تربوية ومعلمين قادرين على مواجهة كل التحديات التي يعاني منها قطاع التعليم، كما عقد على اثر توصيات هذه اللجنة مؤتمر للتطوير التربوي سنة 1987 شارك فيه تربويون من الجامعات والقطاعات التعليمية الأخرى وخلص إلى ضرورة تحسين مخرجات التعليم بإعتباره أساس بناء الإنسان الذي يُعد الثروة الحقيقية في الأردن. وها هي العملية التعليمية والتربوية تحظى في وقتنا الحاضر على الصعيد الوطني بعناية مباشرة من جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي خصص الورقة النقاشية السابعة نحو التعليم وتطويره والتي كانت تحت عنوان “بناء قدراتنا البشرية وتطوير العملية التعليمية جوهر نهضة الأمة”. ومما لاشك فيه بأن المواطنة تجعل من أمتنا جسداً واحداً قوياً، ومن الأردن بلداً قوياً بقيادته وشعبه ليكون هو السند المدافع عن قضايا أمتنا وعلى رأسها الحق في فلسطين والقدس التي تحتاج منّا مضاعفة الجهود لمواجهة المخطط الصهيوني والانتهاكات والاعتداءات الاسرائيلية اليومية على شعبنا في فلسطين والقدس ومقدساتها الاسلامية والمسيحية، ويأتي نداء المواطنة العالمي لصاحب السمو الأمير الحسن بن طلال والعالم يعيش الذكرى (75) لتأسيس هيئة الأمم المتحدة، وبالتالي هو دعوة عالمية للوحدة والتعاون والبناء والنماء الإنساني. أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدساضافة اعلان