المواطن الصالح إنسان صالح

ما المواطَنة؟
هذا المفهوم لم يكن معروفاً في أدبيات الثقافة العربيّة والإسلامية، وعمره في العالم حديثٌ نسبياً، وقد نما مع مجموعة من المفاهيم التي رعتها الديمقراطية في العالم. وإذا كان مفهوم "الوطن" أسبق بطبيعة الحال، وهو الذي تشكّل وتبلور مع ظهور الفكر القومي، فإن "المواطَنة" كمفهوم تطوّر أيضاً من مجرّد كونه التزاماً بالقوانين ومحبّة للوطن، إلى بُعدٍ جماليّ وحضاريّ يحرص على إعمار المكان بالمعنى، والتفاعل مع من يتولى السياسة والإدارة لتجويد العمل الرسمي والشعبي، وتحقيق نموّ في مختلف الاتجاهات.اضافة اعلان
وتُمارس المواطَنة في البلدان الديمقراطية منذ لحظة الوعي الأولى للطفل الوليد، حيث يتعلّم حقوقه وواجباته، تجاه نفسه أولاً وتجاه المكان والكائنات التي فيه، في محيط العائلة، بالتدرّج إلى محيطات أخرى تشمل الوطن بأسره. وإذا كانت المدرسة بعد الأسرة هي الحاضنة التي ينمو فيها الطفل مواطناً صالحاً أو طالحاً، فإن مناهج التعليم هي المسؤولة ثانياً (أي بعد الأسرة) عن التنشئة المواطَنيّة، بل وتصحيح مسار الأهل عندما يلزم.
وإذا كان هناك من يناضل لتسخيف فكرة المواطن الصالح، وإحلال فكرة "الإنسان الصالح" بدلاً منها، فذلك لأن المواطَنة بأبعادها مجتمعةً ليست واضحةً، أو أن ثمة غايات أيديولوجيّة للتقليل من شأن المساهمة الغربيّة المبنيّة على المواطَنة في بناء الإنسان، والتسلّق على الإنجاز الإنساني بأفكارٍ منافسة، قد لا تصمد طويلاً أمام التمحيص النقدي الحياديّ؛ ذلك أنّ المواطنة، كمفهوم، تحتوي على عناصر متعدّدة، منها ما يتصل باحترام القانون، وآخر باحترام البيئة والطبيعة، ومنها احترام الثقافة وقيم الاجتماع المدنيّ: أي قيم العمل والإتقان والمبادرة والآخر. ولا يقف الأمر على الاحترام فحسب، بل على المساهمة في البناء والمبادرة إلى تطوير القطاعات، كلٌّ في مجاله ومجالها. ولذا يغدو التبرع والتطوُّع جوهرين أساسيّين في ثقافة المواطَنة لا يمكن الاستغناء عنهما (فادي غندور ومؤسّسة عبدالحميد شومان وبيل غيتس نموذجاً)، مما يُحيلُ إلى البعد الأخلاقي الذي يفكّر بالمسؤولية الشخصيّة عن بناء الوطن والمساهمة في تنميته، والمسؤولية الشخصيّة تجاه المجتمع وأفراده. ففي هذه المجتمعات، ثمَّة نقد للحكومة ومحاسبة على أدائها، ولكن لا يوجد "نقٌّ" خالص يبرّئ المواطِنَ والمواطِنة من مسؤولية المساهمة في التصحيح العمليّ. وهنا لا نتحدّث عن التبرعات والتطوعات التي تنفق الملايين من أجل نشر أيديولوجيا معيّنة أو دعم فكرةٍ دينية محدَّدة، فهذه ليست مواطَنةً، بل لها سياقاتها الأخرى، حيث تتكفَّلُ العلمانية (تلك التي يكفّرونها ليل نهار) بصكِّ حقٍّ لأي فرد أو جماعة بالقيام بنشاطها السلميّ والمتَّفِق مع القوانين. وهو ما يفعله المسلمون والإسلام السياسي في أوروبا.
فإذا كانت التنشئة على المواطَنة الصالحة تشتملُ على بعدها القانوني والبيئي والمجتمعيّ والثقافيّ والأخلاقي وقيم المبادرة والشفافية والمحاسبية واحترام الآخر وثقافته، فكيف لا يكون المواطنُ الصالحُ إنساناً صالحاً؟ إذ سيسقطُ في الامتحان فوراً أن من رُبّيَ على أنه إنسانٌ صالحٌ إذا قام بتعاليم دينه، وحافظ شديد المحافظة على عاداته وتقاليده، ثم حمل الضغينة على وجود أطياف أخرى من دينه أو من أديان أخرى وتحرّك لإقصائهم، وإذا رأى قطة مزع رقبتها، وذهب يحتطب في الغابة سارقاً الثروة الحرجية، أو مشى في الطريق وألقى بصاقه وقمامته... مقابل مواطنٍ صالح يحترم القانون والآخر، ولا يمكن أن يؤذي بيئةً أو طبيعةً أو شخصاً لأنه مختلف في الجنس أو اللون أو الدين أو العرق أو الطائفة، ولا يمكن أن يرمي في الشوارع نفاياته، ولا أن يُعلي صوت مذياع، أو يترك صغاره يزعجون الناس في الأماكن العامة ويدمرون الحدائق، ولكنه بعقيدةٍ أخرى، وفي رأسه نقاشات مختلفة للدين والأخلاق.  
دعونا لا نفقد الأمل...!