المواطن فردا يحمل إرث الدولة.. وعارها

لم يعد وظيفة للسلطة سوى جلب الضرائب من دون تقديم الخدمات والرعاية للمواطنين، .. لكن الأزمة لا تقف عند هذا الحدّ، بل ربما يكون انسحاب الدولة أقل الأزمات كارثية، فالدولة كانت تؤدي أيضا دورا اجتماعيا وأخلاقيا! وما يحدث اليوم حولنا من أزمات اجتماعية يؤشر إلى تفكك التنظيمين الاجتماعي والأخلاقي. هكذا فإن الفرد الذي ظل يناضل في مواجهة التنظيم والتنميط الاجتماعيين والأخلاقيين لم يعد يعرف ماذا يفعل وكيف يفكر ويميز وحده من غير مرجعية مؤسسية أو اجتماعية بين الصواب والخطأ وبين القبيح والحسن. وهكذا أيضاً يمكن فهم وتفسير الأزمات الاجتماعية والسلوكية الجديدة.اضافة اعلان
نحتاج إلى تأمل طويل لملاحظة التحول أو التشوه الذي أصاب الإنسان على نحو متراكم بفعل التنشئة الاجتماعية والسلسلة الطويلة المتراكمة من الشرائع والمنظومات الاجتماعية والمؤسسية، كيف يستعيد ذاته وينعتق من كل هذا الركام ويكون في الوقت نفسه أقدر على تحقيق السلام وحماية وتطوير العقد الاجتماعي؟ كيف يحل الضمير محل الدولة والمجتمع في التنظيمين الاجتماعي والسياسي والبناء الإيجابي للعلاقات الاجتماعية؟ كيف ينظم الناس أنفسهم ومصالحهم من غير أحزاب ومنظمات اجتماعية، أو ليكن السؤال كيف تعمل المنظمات الاجتماعية الجديدة في ظل قيم الفردية؟
لقد أنشأت الحضارة الإنسانية بمركزية الدين ثم الدولة والمجتمع منظومة من القيم والأخلاق مليئة بضدها، صحيح أنها منظومة حسّنت الحياة إلى مستويات مدهشة، لكننا في حاجة اليوم لنعرف ماذا أصاب الفرد من تشوه، وما الذي يجب التخلص منه أو التمسك به، فكثير مما كان يبدو خلقاً جميلاً صار رذيلة يجب التخلص منها، كانت السلطة والمجتمعات تحمي حياة الناس وتقدم المعرفة أيضاً، أو تنظم الحصول عليها، لكن الإنسان الفرد تحول إلى تابع.
وحولت السلطات والمجتمعات توق الإنسان إلى الارتقاء والمعرفة والمعنى والجدوى إلى جموع منظمة تمضي في حماسة وصدق وذكاء إلى النشوة بدلاً من المعنى، والترفيه بدلاً من المعرفة، والاكتفاء بالانتماء بدلاً من الغايات والجدوى، وصناعة الوهم بدلاً من الحكمة. وأصبح ذكاء الفرد وتفرده عبئاً على المؤسسات الاجتماعية والسياسية، فلا تستطيع أن تظل فرداً كما أنت، لأنك لا تقدر على الانتماء والمشاركة إذا لم تشبه الجموع المنتظمة والمتشابهة والمتحمسة على نحو يجعلك مختلفاً أو خارجاً على السياق وربما مجنوناً، فيتخلى لأجل أن يبقى ويتقدم عن براءته الفطرية لينشئ استجابات وتكيفات تلقائية مع القيم التنظيمية السائدة والمعدة لأجل الطاعة والولاء أكثر مما هي للإبداع والانسجام. وفيما يحسبه تحايلاً ذكياً للتوفيق بين انتمائه وحكمته المستقلة، يحول صدقه ونزاهته إلى وهم وتُقْيَةٍ، ويحسب أنه قادر على التظاهر بالانتماء وهو متفرد، أو أنه يسير في رحلتين متوازيتين؛ رحلة الذات ورحلة الجماعة، لكنه أنشأ قيماً هائلة ومطورة من البلاهة والندم ليحمل نفسه على الانتماء والتكفير في الوقت نفسه عن خطيئته، وكان ذلك أفضل وأهم ما حصلت عليه المؤسسات والنخب السياسية والدينية؛ إذ يتحول إلى كائن متوقع ومندمج!.
هكذا تمضي متوالية تشكيل الفرد لذاته، فيحمي مصالحه مع الجماعة المهيمنة بالتقية، ويحمي ذاته بالتخلي عن الكرامة، وحين يطلب منه أن يعمل ويواجه مخالفاً ضميره وفكرته عن الحياة والكون يستعين بالكراهية، فإذا كانت الإساءة والظلم خطأ فإنه يصير يعتقد أن هؤلاء الذين يغشهم أو يظلمهم لا يستحقون العدل والعطف، يصبح العدل يخص الجماعة وليس قيمة حياتية مطلقة ومستقلة! فيكون بذلك قادراً على المشاركة في سياسات الظلم والتمييز، وفي الوقت نفسه يكون محباً للحياة وأسرته وأطفاله ومواطنيه وجماعته.
وأخيراً تجد أنك لن تكون قادراً على العمل والاندماج وأنت أنت، ولن تحظى بالبركة والأمان وأنت غير قادر على أن تكون غير أنت، فلا تعود تعرف ذاتك إلا بالجماعة، ولا حيلة لك سوى أن تقلل من شأن نفسك أو أن تكون ما تتوقعه منك السلطات والمجتمعات، وقد تحصل على متعة عابرة رديئة متاحة أو على وعد بالنعيم المقيم بعد الموت!